اعلانك معنا تحقيق اهدافك التجارية وزيادة مبيعاتك
ابحث في الموقع
تاربة اليوم - الموقع الإخباري اليمني

كرعان ليلة تاسوعاء: وجبة تريمية مطبوخة بطقوس المحبة، غنية برمزية الدلالة الروحية.

كرعان ليلة تاسوعاء: وجبة تريمية مطبوخة بطقوس المحبة، غنية برمزية الدلالة الروحية.

( #تاربة_اليوم ) / كتابات وآراء
كتب : سالم باسنبل
4 يوليو 2025

في مساء تاسوعاء، حين يتسرَّب نسيم الليل في أزقّة تريم العتيقة، وتغمر الأرواح سكينة التأمل والذكرى، تلوح في الأفق رائحة طهيٍ فريدة من نوعها، تملأ البيوت بعبق الماضي، وتغمر القلوب بحنين دافئ. إنها رائحة “الكرعان” التي ارتبطت ارتباطًا وثيقًا بوجدان أهل تريم، وجبة مخصوصة لعشاء تاسوعاء، ذات دلالة أعمق في رمزيتها.
الكرعان، لمن لا يعرفها، هي أرجل وسيقان الأغنام المستدقّة التي تقع دون الركبة، عارية من اللحم، محفوظة من أيام ذبيحة عيد الأضحى، لتُهيّأ بطبخها خصيصًا في ليلة تاسوعاء. ومفردها “كُراع”، وجمعها “أَكرُع” أو “أكارع”، وفي لهجتنا الحضرمية الدارجة المحببة نقول: “كرعان” جمعًا لها.
ذات مساء، وبينما كنتُ أتجول في السوق، استوقفني مشهد عجيب بالقرب من جامع تريم، لكنه مشحون بالرمزية والحنين؛ رأيتُ “الكراعي”، بائع الكرعان، يحيط به الزبائن وقد استعدّوا لاقتناء سيقان الأغنام لإعداد وجبتهم السنوية المعتادة المفضّلة التي تُحاكي التراث. مشهدٌ يستعيد أزمنة غابرة، حين كانت الأسر تتجمّع حول طنجرة الكرعان.
وتُطهى الكرعان عادةً مع حبوب اللوبيا الكبيرة، التي تُعرف في حضرموت بـ “الدِّيْر الظفاري”، نسبةً إلى ظفار العُمانية، التي كانت قديمًا تمدّ حضرموت بها في سنوات الوصال التجاري. فحبوب اللوبيا تضيف إلى طبق الكرعان ومرقه نكهة البساطة وعبق الأرض.
وترتبط الكرعان بصحة العظام وقوة البدن، في وصفٍ شعبي قديم يختلط فيه الطب بالبركة. هي طعام الأجداد، الذين يرون في القليل بركة، وفي النخاع علاجًا، وفي البساطة جمالًا.
ولا غرو أن العرب قالوا قديمًا في حكمة مشهورة: “لا تُطعِم العبد الكُراعَ فيطمع في الذراع”، في إشارة إلى بساطة هذا الجزء من الذبيحة، وإن كان متواضعًا في ظاهره، إلا أنه عند أهل الذوق والتقشّف محبوبٌ ومرغوب.
وللكرعان في تريم شأنٌ آخر؛ إنّها وجبة تراثية ولها رمز ذو معنى، يترسّخ في الوجدان الشعبي والروحي. إذ يرى أجدادنا أن “الكرعان” – الأرجل – بما تقوم به من وظيفة السير والمضيّ والمشي في الطريق، تُمثّل رمزًا للحركة نحو الطريق القويم. وعليه، فإن طبخها وأكلها في تاسوعاء، وهو اليوم الذي يسبق عاشوراء، تذكيرٌ رمزي بوجوب السير والاستقامة في الطريق الصحيح، لا في دروب التخبط والحزن الغارق في لطم الخدود وشق الجيوب بذكرى استشهاد الحسين رضي الله عنه في العاشر من محرّم، بل في الالتزام بسنّةِ الصوم، والاقتداء بهدي الحبيب المصطفى ﷺ، الذي صام عاشوراء شكرًا لله على نجاة موسى عليه السلام وقومه، وأوصى بصوم يوم تاسوعاء.
إنها رسالة تتجلّى في طبق الكرعان: أن عاشوراء لا تُحيا بالحزن الجارح، بل بالإحياء الصحيح لمعاني الشكر، والتمسّك بسنّةٍ محمديّةٍ أصيلة، تمضي بنا كما تسير السيقان على درب الاستقامة.
وهكذا، تظلّ وجبة “الكرعان” في تريم وجبة شهية تُطهى على المواقد، وذاكرة نابضة تُنضجها نار المحبة، وتُقدَّم على مائدة الروح. هي طقسٌ من طقوس الوفاء، تحمل في مكوناتها البسيطة رموزًا عميقة، تتجاوز طعم اللحم والنخاع واللوبيا “الدِّيْر” والمرق والتوابل. إنّها طبق يُعيد إلى الأذهان كيف يمكن للطعام أن يكون مرآةً للروح.

*`المقالات التي يتم نشرها لاتعبر الا عن راي الكاتب فقط ولا تعبر بالضرورة عن سياسة الموقع`*

إغلاق