حقيقة الانتماء إلى حضرموت: قراءة في ضوء التاريخ والأنثروبولوجيا

تاربة_اليوم /كتابات واراء
كتب /د. عبدالناصر سعيد محمد البطاطي
13 إبرايل 2025م
تُمثل حضرموت نموذجًا حيًّا لحركة الإنسان في المكان، كما هو شأن كل بقاع الأرض منذ فجر التاريخ. والادعاء بوجود أصالة خالصة لقبيلة أو فئة دون سواها، أو أن الانتماء الحضرمي مشروط بأسبقية الوصول، يُعد انحرافًا عن قواعد الفهم التاريخي الموضوعي، وتجنيًا على منطق الجغرافيا البشرية والسنن الاجتماعية.
في ضوء الأدلة التاريخية، فإن حضرموت لم تكن أرضًا مغلقة قط، بل كانت – كما يذكر المؤرخون – ملتقى طرق للتجارة والقوافل والمهاجرين والبعثات الدينية. وقد أشار الجغرافي والمؤرخ اليوناني سترابو (Strabo) والمؤرخ الروماني بليني الأكبر (Pliny the Elder) إلى ميناء قنا الحضرمي كمحطة رئيسة في تجارة اللبان والبخور والعطور مع البحر الأحمر والهند. ويؤكد النقش الموسوم بـ (Ir 37) الشهير أن ملوك حضرموت القدماء أداروا علاقات سياسية وتجارية مع ممالك سبأ وقتبان ومعين، وهو ما يدل على أن الإقليم كان في قلب حركة تفاعل حضارية لا تعرف الانغلاق.
ومن وجهة نظر الأنثروبولوجيا الثقافية، فإن التنوع في الأنساق الاجتماعية واللغوية واللهجية (اللهجات) داخل حضرموت – بين البادية والساحل والداخل – يعكس ديناميكية التفاعل البشري، لا صلابة في النسب. فالتباين في العادات، وتعدد الأنساب، وتداخل القبائل، وتشابك الأصول، كلها شواهد على أن حضرموت لم تُبن على فكرة الصفاء النسبي (العرقي)، بل على المشترك البشري.
علم الجينات (DNA) كذلك، أثبت بما لا يدع مجالًا للشك أن سكان حضرموت – كما سائر سكان الجزيرة العربية – يحملون أنماطًا وراثية متعددة تمتد إلى الشرق الأفريقي، وجنوب آسيا، والهلال الخصيب، والجزيرة نفسها، ما يعكس تاريخًا طويلًا من الهجرة، والتزاوج، والانصهار العرقي والثقافي.
أما من الناحية الفكرية والمقاصدية، فإن الدين الإسلامي الحنيف – وهو دين أهل حضرموت – لم يجعل الانتماء قائمًا على السبق الزمني أو العرقي، بل على معيار العمل والصلاح والوفاء للدار. وقد هاجر نبينا محمد عليه أفضل الصلاة والسلام من مكة إلى المدينة، دون أن يُنتقص من مكانته، بل عظُم قدره بين أهل يثرب، لا لأنه من أرضهم، بل لأنه جاءهم بالمبدأ، وربطته بهم رابطة الإيمان والمواطنة والميثاق.
ولذلك، فإن ما تطرحه بعض الأصوات من تشكيك في أصالة بعض سكان حضرموت، أو اختزال الهوية الحضرمية في خطوط نسب وخرائط قديمة، هو تناقض مع مسلمات التاريخ، ومصادمة لأبجديات العلوم الاجتماعية، وتفكيك لنسيج حضاري شارك في بنائه الجميع.
الأرض – كما يقول مؤسس علم الاجتماع عبدالرحمن بن خلدون الكندي الحضرمي – لمن عمرها، والتاريخ لمن صنعه، والانتماء لمن أحب وخدم وآوى، لا لمن حمل وثيقة أو سبق غيره بأجيال. وفي ضوء هذا، فإن الدفاع عن الانتماء لحضرموت ليس نفيًا لأصالة القبائل، بل هو تحرير لمفهوم الأصالة من الجمود، وتوسيع لمعنى الشراكة في الأرض والمصير.
حضرموت لا تُختزل في وثيقة أو نسب، بل تُبنى على العمل المشترك، والموروث الحضاري، والتاريخ المروي، والتنوع المتكامل. ومن هنا، فإن كل من عاش في حضرموت، واستقر فيها، وشارك في بنائها، فهو من أهلها بلا تردد.
ولا يُنكر أحد أن القبائل الحضرمية كانت وستظل جزءًا لا يتجزأ من التاريخ الحضرمي، لكن ذلك لا يتناقض مع حقيقة أن الأرض تسع الجميع، وأن الهجرة سنة كونية، قال الله تعالى: (وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا) [الحجرات: 13].
ومن هنا نخلص إلى أن الهوية الحضرمية ليست ملكًا لفئة، ولا تُختصر في زمن، ولا تُحصر في سلالة. إنها خلاصة تفاعل الإنسان مع المكان، وتراكم العمل والتاريخ والوجدان. ومن أراد أن ينتمي، فليعمل ويخلص ويحب، فحضرموت لا تُعطى بالورق، بل بالعطاء.
حفظ الله بلادنا حضرموت، أرضًا وإنسانًا.
مع خالص تحياتنا وتقديرنا