لماذا يُسمَح لليمن أن يُدمَّر… ولا يُسمَح له أن ينهض؟
بقلم / خالد الصيعري
الاثنين 8- ديسمبر-2025
من يتأمل تاريخ اليمن خلال المئة عام الماضية يجد أن هذا البلد الذي يشكل موقعه الجغرافي معبراً بين القارات وثغراً حساساً يطل على أهم الممرات البحرية في العالم، لم يُترك لنفسه يوماً. اليمن رغم فقره المزمن وتقلّص موارده الطبيعية مقارنة بجيرانه ظلّ دائمًا مركزًا لصراع إرادات إقليمية ودولية. ومع ذلك فإن السؤال الأكثر إيلامًا اليوم ليس عن أسباب الحروب التي تُفرض عليه بل عن السبب الذي يجعل العالم كله بمؤسساته وقواه الكبرى يسمح بانهياره الكامل… بينما لا يتسامح مطلقًا مع أي محاولة لنهضته أو استعادة عافيته.
هذا السؤال لم يعد مجرّد شبهة سياسية أو خطابًا انفعاليًا يتردد في المقاهي والمنتديات بل بات حقيقة يلمسها كل من يعيش على هذه الأرض. فكل خطوة نحو البناء تُحاصر وكل مشروع إصلاح يواجه عقبات مفتعلة وكل محاولة لاستعادة الدولة أو بسط السيادة تثير جلبة تُذكّرنا بأن اليمن مرسوم له أن يظل واقفًا على حافة الهاوية لا يسقط تمامًا ولا يتعافى تمامًا… فقط يتخبّط في منطقة رمادية تخدم مصالح الآخرين.
حين يُقال إن مشكلة اليمن تبدأ من الجغرافيا فذلك ليس من باب المبالغة. اليمن يطل على باب المندب ويتاخم نفوذ الخليج ويجاور القرن الإفريقي ويصل البحر الأحمر بالعالم. جغرافيا بهذا المستوى لا تُترك للصدف. فالدول التي تتحكم بالحركة البحرية العالمية—من الولايات المتحدة إلى بريطانيا مرورًا بفرنسا وبعض القوى الإقليميةلا يمكنها أن تمنح دولة مثل اليمن ولكن ذات موقع حساس حرية تشكيل مستقبلها باستقلالية.
ولهذا لم يكن مستغربًا أن تتكاثر في اليمن الوصايات الظاهرة والمستترة. كل قوة لها تصورها الخاص عن اليمن “المناسب” لمصالحها:
يمن ضعيف غير قادر على إدارة حدوده لا يملك جيشًا موحدًا ولا يرسم سياسة خارجية مستقلة. يمن يمكن للآخرين التفاوض عليه ولكن لا يستطيع هو التفاوض على نفسه.
إن هذا الإدراك الأساسي يجعلنا نفهم لماذا تُفتح أبواب الدمار سريعًا حين يسقط البلد في أزمة بينما تُغلق كل نوافذ الخلاص حين يحاول النهوض.
قد يبدو هذا الكلام قاسيًا لكنه واقع موثق بالتجربة:
كل مرة حاول اليمن فيها بناء دولة مركزية حديثة—من عهد إبراهيم الحمدي إلى تجربة الوحدة في التسعينات مرورًا بمؤتمر الحوار الوطني كان الانفجار يحدث فجأة وبقوة أكبر مما تحتمله موازين الداخل. وكأن هناك قوة خفية لا تحتمل رؤية هذا البلد واقفًا على قدميه.
لماذا يحصل ذلك؟
لأن الدولة في اليمن تعني شيئًا واحدًا:
■ السيطرة على الجغرافيا.
■ ضبط حركة الموانئ.
■ امتلاك قرار النفط والغاز.
■ إنهاء اقتصاد الحرب.
■ إلغاء الحاجة للوصايات الخارجية.
وهذه كلها خطوط حمراء.
فوجود دولة يمنية مستقرة يعني أن اليمن سيطالب بحصته الحقيقية من الملاحة الدولية وسيتفاوض على موارده بمنطق الندّية وسيوقف الفوضى الاقتصادية التي يستفيد منها تجار الصراع الكبار. دولة يمنية قوية تعني منطقة آمنة ومنطقة آمنة تعني منافسًا جديدًا في سوق الطاقة والعبور البحري وهذا ما لا يريده كثيرون.
لذلك، حين يقترب اليمن من أبواب النهوض تُفتح فجأة ملفات قديمة ويعاد تدوير صراعات كانت نائمة وتُغذّى حساسيات مناطقية ومذهبية لم يكن أحد يتحدث عنها قبل سنوات قليلة. كأن هناك “محرّكًا” يعمل في الخلفية مهمته ألا يصل اليمن إلى نقطة الاستقرار.
إذا لماذا يُسمح بالدمار؟
من الوهلة الأولى قد يبدو أن السماح بانهيار اليمن لا يخدم أحدًا. فاليمن بلد كبير سكانياً وأي انفجار فيه يمكن أن يهز المنطقة بأكملها. لكن الحقيقة مختلفة.
الدمار في اليمن مهما كان إنسانيًا مؤلمًا يمثل بالنسبة للبعض “مشكلة مُدارة”، أو كما يسمونه في الدوائر الدبلوماسية “صراع منخفض الكلفة”.
لأن الدمار يسمح لهم بالتالي:
1. التحكم الكامل بالممرات المائية دون الحاجة لوجود دولة قوية تحميها.
غياب الدولة يعني أن الدول الكبرى تستمر في حماية البحر الأحمر وباب المندب تحت لافتة “الأمن الدولي”.
2. استمرار حاجة أطراف يمنية متعددة للدعم والتمويل.
وهذا يجعل الساحة مفتوحة للتأثير السياسي بدل وجود حكومة واحدة تفرض شروطها.
3. إضعاف أي مشروع اقتصادي يمني يمكن أن ينافس الموانئ المحيطة.
فالموانئ القوية تحتاج إلى دولة… والدولة لا يجب أن تقوم.
4. إبقاء اليمن سوقًا مفتوحة للسلاح والعمالة الرخيصة والمواد الإغاثية.
وكلها قطاعات ضخمة لا يستطيع أحد ادعاء البراءة من فوائدها.
إن السماح بالدمار ليس عشوائيًا كما يبدو. إنه جزء من معادلة دقيقة: انهيار محسوب يمنع قيام دولة لكنه لا يسمح بانهيار كامل يهدد المنطقة. إنها إدارة أزمة لا حلّ أزمة.
وهناء السؤال الذي الكل يسئله ولماذا لا يُسمح بالنهوض؟
هنا أصل السؤال: لماذا يتم التعامل مع مشاريع التنمية والإصلاح كما لو كانت تهديدًا للأمن الدولي؟ ولماذا تُرفض المبادرات التي تهدف لتوحيد المؤسسات بينما يتم القبول ضمنيًا بالوضع المنهار الحالي؟
الإجابة تتوزع على عدة مستويات إذا أراد الله نذكرها في الأيام المقبله لكم






