ذكريات معلّم في مدرسة البطان
كتب / محمد محتوم
تواصل بي، عن طريق تطبيق (الواتس اب)، وبعد السلام والتحية قال: «لا أدرى من أين أبدأ أستاذي العزيز، ولكني أحد طلابك في مدرسة الشهيد محمد شيخ (البطان)، واسمي محمد مهدي.. قد تكون نسيتني أو لا تتذكرني، لكنني أتذكرك دائماً وأتوق للقاء بك يوماً».
ابتسمت وأنا اقرأ رسالته، قلت له: الحقيقة أنى لا أتذكرك تحديداً، ولكن المعلّم يمرُّ عليه طلاب خلال السنوات التي يقضيها في التعليم، وأحياناً تختزل الذاكرة بعضهم فعلى سبيل المثال: أستاذنا سعيد علي المسعدي، التقيته في عدن وسلّمتُ عليه بحرارة، ونسيتُ أني كبرتُ وتغيّرتْ ملامحي، وأستاذي مرّت عليه سنين وأحداث، وذاكرتي احتفظت بالأستاذ من ثمانينات القرن الماضي، ومع هذا لم يتذكرني واستحى، فبادرته باسمي فذكّرني بأخي شيخ محتوم رحمه الله.. لكن (محمد) حَدّث ذاكرتي لفترة جميلة كنتُ اعتقد أنها مرّت دون تأثير وأنها محطة قصيرة لكنها على العكس كانت فترة من حياة طلاب احتفظوا لمعلميهم بالفضل والذكرى الجميلة، وقد غمرتني سعادة كبيرة أثناء اتصاله.
واستمر التواصل خلال أسبوعين، ثم زار عدن لعمل خاص وتشرّفتُ بلقائه في منزلي بصحبة ابنه الشاب (أحمد) الذي يعمل حارس أمن بإحدى المنشئات المالية، وكان لقاءً جميلاً انستُ به، يحمل معاني الصدق والاخاء اشعرني محمد بأهمية المعلّم في حياة طلابه رغم مرور السنين.. كانت فترة خدمتي في مدرسة (البطان) بعد تخرّجي من الثانوية مباشرة 1995م، تلك الفترة تم إلغاء التجنيد واستبداله بخدمة التعليم ويُسمّى (ملزم) لمدة عامين حيث تُمنح لنا مكافئة ألفين ريال عن كل شهر غير منتظمة تُصرف كل عدة أشهر. كانت (البطان) من نصيبي أنا وزميلي منذٌ الصف الأول وحتى تخرّجنا من المعهد العالي لإعداد المعلمين والمعلمات، الدكتور (مصطفى الصوفي)، وأيضاً ممن توزّع معنا الأستاذ (أحمد ناصر الذلقي)، والأستاذ (بركات – من خنفر)، وتطوّع الأخ (صالح محمد العود) للتعليم من تلقاء نفسه.
كنا نذهب كل صباح مع سيارة الأستاذ ناصر عبد الله سُكين، وهي سيارة بيكاب تحمل ثلاثة رُكّاب في غمارتها والبقية في الخلف نقف فيها قياماً ممسكين بشبكها حتى نصل، نصعد فيها مع مجموعة من المعلمين الأساسيين.. نتمتع كل صباح باستنشاق نسيم الصباح العليل، وعلى جنبات الطريق أشجار مختلفة وأغلبها من شجر (السُّمُرْ)، وفي وسط الأراضي الزراعية تتوزع العلوب (أشجار السدر) الوارفة الظلال.
ننطلق من مدينة الوضيع باتجاه البطان، وأول القرى التي تستقبلنا، بعد أن نترك قرية (أهل وهيب) على يسارنا، هي قرية (الشحطة)، هذه القرية لها تأثير خاص في نفوسنا منذُ الطفولة فهي قرية مسالمة وادعه متحضرة فيها آبار مياه عذبة، وأشهرها بئر (واق) الأثرية التي يمتد من داخلها (نفق) صعوداً إلى تل (نمار) المقابل لها بحوالي (300) متر تقريباً وتوجد على قمّته آثار مبنى مهدّم. وبعد أن نتجاوزها طولاً من بدايتها حتى نهايتها، لكون خلفها جبل وأمامها أراضي زراعية، ثم تأتي بعدها بمسافة كيلو أو أكثر، قرية (أمعديل) وفيها ساكن عبد الله صالح الحيدري، وساكن أهل العامري، وقنّان القميشي، وأهل قُشنة، يصعد معنا مجموعة بسيطة من الطلاب، ثم تنحدر السيارة باتجاه الشرق بشكل مستقيم وندخل قرية أكبر تُسمّى (الجروبة) يسكنها (أهل دوبلي)، يصعد معنا طلاب القرية ثم نتجه إلى قرية (ثعلبة – أهل باعش)، وهي إحدى قرى (البطان)، وتقع المدرسة في محيطها، وهناك تأتي سيارات أخرى من قرى مختلفة محملة بالطلاب إذ تشكل المدرسة نقطة محور لهذه القرى .
يبدأ يومنا بالطابور الصباحي، هذا الطابور الذي كنتُ طالباً فيه إلى قبل أشهر بسيطة، كنتُ أحاول أن يكون لي حضوراً فيه، وهنا تذكرّتُ أساتذتي في كل مرحلة دراسية في مدرسة الشهيد (باروت) في مدينة الوضيع، يذكرّني الطابور بالأستاذ (سالم سعيد خليل) وهو يضرب بالعصا بسرعه كل من يتكئ بيده من الطلاب على المسرح المدرسي الملاصق لطابور الصف الأول ابتدائي، وأتذكر الأستاذ (عبد الله أحمد حيدرة الشوبية (وحيش) الذي كنتُ أخاف منه خوفاً شديداً معتقداً أنه من عالم آخر، والأستاذ (الخضر صالح جبران) الذي نسمع عن أسلوبه وشدّته، والمسطرة والقلم حيث يضعهما بين أصابع طلاب الصف السابع والثامن، و الأستاذ (سالم محمد الربح) كالطود فوق منصة الطابور الصباحي.
الأستاذ (منصور محمد مضوج) مدير مدرسة البطان، يدير الطابور بمعية الأستاذ عبد الله محمد الزاحف، والأستاذ محمد أحمد السعيدي، والمعلّمين الأساسيين. كنتُ أحاول أن أقف بين الصفوف وخلفها لكي أتعوّد لكني فيما أتذكر لم ألقِ كلمة الصباح أو قمتُ بالتدريب.. تآلفنا نحن والأستاذ (منصور) وأحبنا كثيراً وكان بمعيتهم شخص نادر في أخلاقه وتواضعه واحترامه واهتمامه بنا وهو الأستاذ الفاضل عبد الله امزاحف، لم ينقطع منا طوال السنوات حتى إذا وجد أحدنا قال له: بلّغ فلان وفلان السلام، رحمة الله عليه رحمة واسعة، كان أبناؤه يدرسون بنفس المدرسة.
هذه المدرسة بعد أن يغادرها الطلاب، عند انتهاء الدوام، تكون خالية موحشة كئيبة، وهنا تذكرّني بمسلسل مصري بطولة الممثل المصري (محمد صبحي) حينما تم توزيعه معلّماً في مدرسة في قرية صحراوية نائية، وكان مضطراً للنوم في غرفة خاصة داخل المدرسة وحيداً وأحسّ بالوحشة ووجد التعليم رتيب وقديم ولا توجد انشطة وكان متذمراً يريد العودة للمدينة فتعايش مع الطلاب وابتكر انشطة وكان معه (عود) يعزف عليه للطلاب وكان يجد صَدّأً من إدارة المدرسة أحياناً لكنه أوجد علاقة بينه وبين الطلاب عادت بالنفع عليهم وحببتهم في المدرسة. وكنتُ أحبُّ أن أعيش هذه التجربة وأن بشكل مختلف.
غالبية المعلّمين كانت فيهم شدّة يتواصون بها لأن بعض الطلاب كانوا اشقياء لدرجة كبيرة فيعتقدون أن التعامل مع كم كبير من الطلاب يحتاج إلى هذا الأسلوب حتى المعلّم الجديد يتماشى مع هذا النظام وأيضاً كانت قناعة أن أسلوب الشدّة يعلّم الطلاب ويحسّن مستواهم.
أيام دراستنا بالثانوية بدأت ثقافة تعليمية جديدة في عدم استخدام العصا كوسيلة تعليمية، وبعد تخرّجنا اتسمت علاقتنا بالطلاب بالودّية وهذا ما أثار التباين بين جيلين فكنا ننصح بعدم التهاون مع الطلاب إذ لا بد أن يكون حاجزاً بين الطالب والمعلّم فالمعلّم يجب أن يكون ذلك المهاب الذي يحمل بيده عصا ليخاف منه الطلاب. قد يقول قائل: إن هذه الطريقة كانت أفضل، لكن مع مرور الوقت وتعديل المناهج واستحداث الأساليب وتطوّر التعليم، تم ترك العصا إلا نادراً. تحوّل التدريس بالنسبة لي إلى متعة احدثنا، بصحبة المعلمين، الأساسيين أشياءً كثيرةً واعدنا ترتيب الإدارة حيث رتبّنا الكتب التي كانت مكومة على بعضها وجعلناها منظّمة حسب المرحلة الدراسية على طول جدار الإدارة ورتّبنا مكتب المدير وكراسي المعلمين بطريقة قاعة الاجتماعات، ثم رسمنا على الجدار خريطة العالم.
قال لي ضيفي وطالبي محمد مهدي: لم تتغيّر يا أستاذ محمد كثيراً إلا أنه زاد وزنك، ولكن صورتك هي، هي. ثم سألني: من مواليد كم؟ قلت له: 1975م تقريباً. قال: ونحن من عام 1982م، والفارق بيننا قليل لذا كنا متقاربين معكم بالسِّن.
الفترة التي قضيتها في مدرسة البطان فترة جميلة جداً وأهم فقرة مميّزة فيها هي وقت الصبوح وشرب الشاي الحليب، إذ كنا نرتّب جدول الفطور (الصبوح) كل يوم على معلّم خاصة الخصار والشاي، أمّا الخبز فكل معلّم يحضر معه ما تيسر.. كان الطلاب أيضاً يتناولون (صبوحهم) حول المدرسة، كان بالمدرسة اسماء كثيرة نسيتهم وأتذكر الأخ العزيز صاحب النكتة الجميلة عبد الله سالم (الديسكو) وكان موظفاً مدرّباً لطلاب المدرسة على الحركات العسكرية . أحياناً نذهب بصحبته على مكينة حراثة نحمل تراب لسقف المدرسة لحمايتها من تسرب الأمطار. وبعد عامين انتهت فترة التعليم الالزامي وكان علينا الاستعداد للجامعة وترك هذه المدرسة القديمة والتي لا يوجد بها سور ولا فصول مريحة ولا مقاعد كافية للطلاب والنائية عن المنازل، لكنها كانت من أجمل محطات حياتي التي جمعتني بالزملاء والطلاب واكسبتني خبرة استعنت بها حينما عدت مرة أخرى إلى دائرة التعليم كموظف وقد حسبت أنني نسيت أيامي في مدرسة الشهيد محمد شيخ بالبطان، ولكن نبشت الذكريات هذه الزيارة التي سعدتُ بها كثيراً!






