اعلانك معنا تحقيق اهدافك التجارية وزيادة مبيعاتك
ابحث في الموقع
تاربة اليوم - الموقع الإخباري اليمني

النفس مرآة السعادة والشقاء: قراءة فلسفية وجمالية في قصيدة (المرءُ لا تَشقيهِ إلَّا نَفْسُهُ ) لإيليا أبو ماضي

النفس مرآة السعادة والشقاء: قراءة فلسفية وجمالية في قصيدة (المرءُ لا تَشقيهِ إلَّا نَفْسُهُ ) لإيليا أبو ماضي

تاربة_اليوم /كتابات واراء

بقلم: الدكتور عبدالناصر سعيد محمد البطاطي
باحث أكاديمي

15 نوفمبر 2025م

يشكل الشاعر إيليا أبو ماضي أحد أبرز رموز التيار المهجري في الأدب العربي الحديث، وقد تميز شعره بعمقٍ فلسفيٍّ وإنسانيٍّ يجمع بين التأمل الوجودي والإشراق الروحي. ومن بين قصائده البديعة التي تجسد رؤيته للحياة والإنسان، قصيدته المشهورة (المرءُ لا تَشقيهِ إلَّا نَفْسُهُ ) الواردة في ديوانه الخَمائل ضمن الأعمال الكاملة (دار العودة، بيروت، ط3، 1986م، ص72). في هذه القصيدة يقدم أبو ماضي خلاصة تجربته الفكرية والوجدانية، مؤكدًا أن مصدر السعادة أو الشقاء ليس العالم الخارجي، بل النفس الإنسانية ذاتها.
يبدأ الشاعر قصيدته بمقدمة تقريرية جازمة تقلب المألوف من التفكير، إذ يقول:
المرءُ لا تَشقيهِ إلَّا نَفْسُهُ
حاشا الحياةَ بأنَّها تُشقيهِ
هنا ينفي إيليا أبو ماضي أن تكون الحياة سببًا للشقاء، فيعيد المسؤولية إلى الإنسان نفسه. فالحياة في نظره محايدة، لا تمنح الحزن أو الفرح، وإنما النفس هي التي تلون الوجود بما فيها من اضطراب أو صفاء. هذا الطرح يعبر عن رؤية عقلانية متسامية تجعل الإنسان سيد مصيره الداخلي، لا أسير ظواهره أو تقلباته.
ثم ينتقل الشاعر إلى تشخيصٍ نفسيٍّ دقيق حين يقول:
ما أجهلَ الإنسانَ! يُضني بَعضُهُ
بَعْضًا، ويَشكو كُلَّ ما يُضنيهِ
فالإنسان – في نظر الشاعر – هو عدو نفسه، يُرهق ذاته ويشكو من نتائج أفعاله، فيسقط آلامه على الآخرين، متناسيًا أن أصلها كامن في داخله. ويتعمق أبو ماضي في هذه الفكرة ببيت بالغ الحكمة حين يقول:
ويظنُّ أن عدوَّه في غيرِهِ
وعدوُّهُ يُمسي ويُضحي فيهِ
وهنا يتجلى وعي الشاعر بطبيعة الصراع الداخلي للإنسان، إذ يرى أن الخصم الحقيقي ليس في الخارج، بل في النفس ذاتها، بما فيها من جهل، وأنانية، وقلق، وتنافر. إنها نظرة قريبة من التحليل النفسي الحديث الذي يرى أن الإنسان كثيرًا ما يُسقط عُقده وأخطائه على غيره هروبًا من مواجهة ذاته.
في الأبيات الختامية، يبلغ الخطاب ذروة الحكمة الهادئة والصفاء الإنساني:
يا مَن تُعاني الوَيْلَ مِن أحزانِهِ
نفسُك أوْلى مِنكَ في تَأديهِ
فاسكُنْ إلى نَفْسِكَ، واستوثِقْ بها
وابتَغِ السَّعادَةَ في الرِّضا تَهْديهِ
إنها دعوة صريحة إلى المصالحة مع الذات، والبحث عن الطمأنينة في الرضا، لا في مقاومة القدر أو التمرد على الواقع. ففي الرضا – كما يرى الشاعر – تكمن السعادة، وفي الثقة بالنفس يتحقق السلام الداخلي. هكذا تتحول القصيدة إلى ميثاقٍ إنسانيٍّ يُعيد ترتيب العلاقة بين الإنسان ونفسه، ويضع السعادة في متناول من يملك الشجاعة للنظر إلى ذاته بصدق.
تتجلَّى في القصيدة البنية الجمالية المميَّزة لشعر أبي ماضي؛ لغةٌ شفافةٌ سهلة ممتنعة، وموسيقى هادئة منسابة تخدم المعنى التأملي، وصور بيانية تنبع من التجربة لا من التكلف. كما يقوم النص على تقابلات فلسفية دقيقة بين الداخل والخارج، النفس والحياة، العدو والذات، مما يمنح القصيدة عمقًا جدليًا يُضفي عليها نكهة فكرية ناضجة.
من منظور فلسفي، ترتكز رؤية أبي ماضي على فكرة قريبة من الفلسفة الرواقية التي تجعل السعادة نتاجًا للاتزان الداخلي، ومن الفكر الصوفي الذي يرى أن أعظم الجهاد هو جهاد النفس. وهو في ذلك يجمع بين حكمة الفلاسفة وشفافية الروح، ليؤكد أن الإنسان لا يُعذَّب بالحياة بل باضطرابه الداخلي، ولا يَسعد إلا حين يتصالح مع ذاته ويُحسن الظن بخالقه.
إن قصيدة (المرء لا تَشقيهِ إلَّا نَفْسُهُ) ليست مجرد تأمل شعري في النفس الإنسانية، بل هي خطابٌ تربويٌّ وفلسفيٌّ في آنٍ واحد، يُعلِّم الإنسان كيف يصنع سلامه الداخلي، وكيف يُعيد ترتيب علاقته بالحياة على أساس الرضا والتوازن. وهي بذلك نصٌّ خالد تتجاوز دلالاته حدود الشعر لتصبح جزءًا من الفكر الإنساني العام، ودعوة دائمة إلى أن يرى الإنسان في نفسه مفتاح السعادة ومصدر النور.

إغلاق