العمل والكرامة الإنسانية ومسؤولية الدولة في حماية حياة المواطنين: قراءة في أخلاقيات النقل العام والخاص
تاربة_اليوم /كتابات واراء
بقلم: الدكتور عبد الناصر سعيد محمد البطاطي
باحث أكاديمي
السبت، 8 نوفمبر 2025م
يمثل العمل في جوهره قيمة إنسانية عليا، تتجسد فيه كرامة الإنسان ومعناه الحضاري، فهو وسيلة للبناء لا للهدم، وللإعمار لا للإضرار. ومن خلال العمل الشريف والعفيف يحقق الإنسان ذاته، ويؤكد انتماءه إلى منظومة القيم والمبادئ التي تحفظ له مكانته في المجتمع. غير أن هذه القيمة لا تكتمل إلا حين يقترن العمل بالمسؤولية والأمانة، وحين تُراعى فيه حقوق الآخرين وسلامتهم، خصوصًا في القطاعات التي تمس حياة الناس مباشرة، مثل قطاع النقل والمواصلات.
العمل ليس مجرد وسيلة للرزق، بل هو تعبير عن المشاركة في بناء الحياة العامة. فالكرامة الإنسانية تكتمل حين يشعر الإنسان أن جهده يسهم في خدمة الناس لا في إضرارهم. ولهذا كان من صميم القيم الدينية والاجتماعية أن يكون العمل مقرونًا بالنية الصالحة والإتقان، قال تعالى: (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون) [التوبة: 105].
ومن هذا المنطلق، فإن سائقي المركبات وملاك وسائل النقل العام والخاص باختلاف أنواعها وأحجامها يمثلون حلقة أساسية في دورة الحياة اليومية، لأنهم مسؤولون عن أرواح الناس وأمنهم وسلامتهم في الطرقات، وهو ما يجعل مهنتهم ذات طبيعة أخلاقية وقانونية خاصة.
تُعد مهنة النقل من أكثر المهن التصاقًا بالمجتمع، فهي تربط بين الناس، وتيسر سبل العيش، وتُعد ركيزة أساسية في النشاط الاقتصادي والاجتماعي. غير أن ما يلاحظ في كثير من البلدان النامية، ومنها بلادنا، هو غياب الوعي المهني والأخلاقي لدى نسبة واسعة من ملاك وسائقي وسائل النقل باختلاف أنواعها وأحجامها، حيث يمارس العمل بدون التزام بمعايير السلامة أو الصيانة الدورية أو احترام حياة الركاب.
تظهر مظاهر الإهمال في:
* تجاوز السرعات المحددة.
* تجاوز وعكس حركة السير.
* عدم مراعاة حياة وسلامة الركاب والمارة على الطرق.
* تحميل المركبات فوق طاقتها الاستيعابية.
* إهمال الصيانة الفنية.
* القيادة لساعات طويلة دون راحة.
* التساهل في القوانين المرورية.
* عدم تقديم تعليمات السلامة للركاب قبل الرحلات أو أثناءها.
* غياب أدوات السلامة الحديثة في الباصات ووسائل النقل، مثل مطافئ الحريق، ومخارج الطوارئ، وأدوات الإسعاف الأولي.
وهذه الممارسات تؤدي إلى كوارث بشرية متكررة، يسقط ضحيتها مئات الأبرياء سنويًا، في ظل ضعف الرادع القانوني وغياب المحاسبة الجادة.
تُعد الدولة في فلسفتها الحديثة مؤسسة لحماية الإنسان قبل أي شيء آخر، فهي الموكلة بصون الحقوق وضمان الأمن العام وتنظيم العلاقات بين الأفراد والمجتمع. وإذا قصرت الدولة في أداء هذا الدور، فإنها تفقد مبرر وجودها الأخلاقي.
فلا قيمة لدولة لا تحمي حياة مواطنيها من الإهمال والتهاون في تطبيق القوانين. إن تساهل الأجهزة الرسمية في الرقابة على المركبات وسائقيها، وفي فرض العقوبات المشددة والرادعة على المتسببين في الحوادث، يخلق بيئة من (اللا مسؤولية)، ويجعل من حياة الناس سلعة زهيدة في سوق المصالح الفردية.
وقد صدق القول المأثور: (من أمن العقوبة أساء الأدب)، لأن غياب الردع يفتح الباب واسعًا أمام الفوضى والاستهتار.
ومن مسؤوليات الدولة الجوهرية أيضًا إصلاح الطرق وصيانتها الدورية، ولا سيما: الطرق التي تربط المدن والقرى، والخطوط الطويلة بين المحافظات، والطرق الحيوية التي تصل البلاد بالدول المجاورة.
فكثير من الطرق قد تهدمت أو تآكلت أو تضررت بفعل الإهمال والزمن، مما يجعلها شريكة في الحوادث المميتة، ويضاعف من معاناة المواطنين. ومن ثم فإن إصلاح الطرق العامة دون تأخير أو استثناء هو واجب وطني وإنساني في آنٍ واحد، لا يقل أهمية عن تطبيق القوانين المرورية أو ضبط السائقين.
ينبغي أن يكون القانون هو المرجع الأعلى في تنظيم قطاع النقل، من خلال منظومة واضحة تشمل:
1. اشتراطات فنية صارمة لصيانة المركبات وفحصها الدوري.
2. تنظيم ساعات العمل والراحة للسائقين منعًا للإرهاق الذي يسبب الحوادث.
3. فرض غرامات وتعويضات باهضة ورادعة في حالات الإهمال أو الحوادث الناتجة عن التهور.
4. تفعيل الرقابة الميدانية الصارمة على شركات النقل العام والخاص، بما في ذلك خطوط النقل الداخلية والخارجية. وكذا وسائل النقل باختلاف أنواعها وأحجامها.
5. توعية المجتمع بأهمية الالتزام بمعايير السلامة المرورية من خلال برامج تعليمية وإعلامية.
6. إلزام وسائل النقل العام والخاص بتوفير أدوات السلامة الحديثة وتعليم الركاب كيفية استخدامها في حالات الطوارئ.
فالقانون لا يهدف إلى العقاب بقدر ما يسعى إلى حماية الأرواح، وتحقيق العدالة بين جميع الأطراف: المالك، والسائق، والراكب، والمجتمع، والدولة.
إن الحوادث المرورية ليست مجرد أرقام في تقارير الشرطة أو نشرات الأخبار، بل هي مآسٍ إنسانية تضرب عمق المجتمع. فكل ضحية تمثل قصة إنسان فقد حياته أو أصيب بعاهة دائمة، وأسرة فقدت عائلها، وطفلًا حُرم من الأمان.
ولذلك فإن الإهمال في هذا الجانب ليس مجرد خطأ إداري، بل هو خيانة أخلاقية للمجتمع. ومن واجب مؤسسات الدولة والمجتمع المدني العمل على خلق ثقافة عامة تقوم على احترام الحياة، والالتزام بالمسؤولية، والإيمان بأن الحفاظ على الأرواح واجب ديني وإنساني قبل أن يكون قانونيًا.
إن حماية حياة الناس ليست ترفًا إداريًا أو شعارًا إعلاميًا، بل هي معيار جوهري لمدى شرعية الدولة وأهليتها للوجود.
فإذا لم تقم الدولة بواجبها في حماية الإنسان، فلا مبرر لوجودها أصلًا، لأن المواطن هو أساس العقد الاجتماعي الذي قامت عليه الدولة الحديثة.
وعليه، فإن إصلاح قطاع النقل، وتشديد الرقابة والعقوبات، وتفعيل أخلاقيات المهنة، وتوفير أدوات السلامة الحديثة، وصيانة الطرق العامة على نحو عاجل وشامل، هو واجب وطني وإنساني وأخلاقي في آنٍ واحد.
فبقدر ما تُصان كرامة الإنسان وتُحترم حياته، بقدر ما تُقاس حضارة الأمم ورقيها.
مع خالص تحياتنا وتقديرنا للجميع.






