اعلانك معنا تحقيق اهدافك التجارية وزيادة مبيعاتك
ابحث في الموقع
تاربة اليوم - الموقع الإخباري اليمني

في ذكرى استشهاد القائد الاستثنائي: صالح أبوبكر بن حسينون..

في ذكرى استشهاد القائد الاستثنائي: صالح أبوبكر بن حسينون..

مقال لـ / م. أحمد صالح الغلام العمودي
الخميس 10 يوليو 2025

قراءة في: موقف “حياد” المنطقة العسكرية الأولى من الحرب وتموضع حضرموت كغنيمة
بقلم: م/أحمد صالح الغلام العمودي

محاور المقال:
• تمهيد: من دم الشهيد إلى خرائط السيطرة: “جبهة العبر” بين ذاكرة بن حسينون ومكر “الحياد العسكري”.
• “دراما” تسليم الساحل لتنظيم القاعدة: سيناريو ما كان مرسومًا لحضرموت.
• تدخل التحالف العربي يربك مخطط انقلاب صنعاء.
• موقف “الحياد” كصفقة سياسية.
• أزمة “العقيدة القتالية” تُفْشِل “شمال الشرعية” في جبهات القتال وأَفْشلت التحالف في مهمته.
• تحالفات قديمة وجديدة تتعانق.
• “حياد” أَتْقن فن انحيازه.
• حضرموت على مفترق طرق.
• خاتمة ورجاء.
تمهيد: من دم الشهيد إلى خرائط السيطرة: “جبهة العبر” بين ذاكرة بن حسينون ومكر “الحياد العسكري”.
في يوم الأثنين الموافق 4 يوليو 1994م، ارتقى اللواء الركن صالح أبوبكر بن حسينون شهيدًا؛ دفاعًا عن أرضه ووطنه، على مشارف مدينة المكلا الغربية في عملية أقل ما توصف بالكمين الغادر لا يخلو من بصمات الخسة والتآمر، ووُري جثمانه الطاهر الثرى صباح يوم الثلاثاء 5 يوليو 1994 م، بمدينة الشحر.. فبسقوطه سقطت حضرموت، ومعها الجنوب، في قبضة احتلال لا تزال آثاره تنهش الجغرافيا والذاكرة. كانت “جبهة العبر” —التي تُعد اليوم نواة “المنطقة العسكرية الأولى”—ذات رمزية استراتيجية في وجدان الشهيد، إذ خاض فيها أبرز معاركه، وكانت تلك الجبهة من الجبهات التي ظلت متماسكة وصامدة حتى آخر لحظة في حرب 1994. وشهدت جبهة العبر هذه واحدة من أكبر وأنجح المناورات العسكرية في تاريخ الجيش والعسكرية الجنوبية، تلك العسكرية التي نالت شهادة وإشادة الفريق سعد الدين الشاذلي رئيس أركان الجيش المصري في حرب أكتوبر 1973 المظفرة مع العدو الصهيوني، بالدور الفعّال للعسكرية الجنوبية في إغلاق مضيق باب المندب والسيطرة عليه؛ وكان للشهيد من موقعه في هيئة الأركان العامة ورفاقه الدور الأبرز في تلك الملحمة المجيدة في التاريخ العسكري العربي.
وطالما الحديث قد آل إلى المنطقة العسكرية الأولى، وإلى موقفها الملتبس من الحرب الدائرة في اليمن لأكثر من عقد من الزمان، فقد كان لزامًا التذكير، ولو عرضًا، بما كانت تمثّله هذه المنطقة من أهمية استراتيجية في عقل الشهيد بن حسينون، ليس فقط كونه قائدها في حرب 1994، وما قبل الحرب أيضًا، بل بما تفرضه تطورات المشهد اليمني الراهن، وما لهذه القوة العسكرية (المنطقة العسكرية الأولى اليوم)من دور مُرتقب في صياغة الخارطة الجيوسياسية لحضرموت، والجنوب، واليمن، بل والإقليم بأسره، تمامًا كما كان لها دورها لأكثر من ثلاثة عقود في تكريس وضعٍ يُراد له الثبات والاستمرار. غير أن الحديث عن هذا الدور المستقبلي لا يستقيم دون الوقوف أمام موقفها المخاتل طوال سنوات الحرب المشتعلة تحت يافطة “الحياد”!
فطيلة سنوات الحرب العشر لم تطلق هذه القوة العسكرية الضاربة ولو “تعشيرة واحدة” ! .. فقد أعلن قائدها منذ الأيام الأولى لعاصفة الحزم موقف الحياد.. فيا تُرى: مِنْ مَنْ ومِمَّ هذا الحياد؟ وما تفسيره؟ لماذا لم يتحرّك أحد، حين أعلنت المنطقة العسكرية الأولى رفضها تنفيذ قرارات رئيس الدولة بدخولها الحرب ضد تحالف الانقلاب الجديد (علي عبدالله صالح وأنصار الله)، ولماذا ابتلع الإعلام الرسمي الشرعي لسانه إزاء ما حدث؟ وهل الحياد الإعلامي يعني أن يُغَضّ الطرف عن تمرّد عسكري ويُتعامل معه كما لو كان وجهة نظر سياسية؟ ألم يكن بإمكان هذه القوة العسكرية أن تصطفّ في الجانب المنسجم مع قناعاتها: مع الشرعية، أو مع تحالف قوى الانقلاب في صنعاء؟ لماذا امتنعت قيادة المنطقة من تجسيد قناعاتها الحقيقية على الأرض؟

“دراما” تسليم الساحل لتنظيم القاعدة: سيناريو ما كان مرسومًا لحضرموت
وفي تقديرنا، ووفق الشواهد وتسلسل الأحداث الزمني وربطها ببعضها، فإن الدور الذي أُنيط بالمنطقة العسكرية الأولى في وادي حضرموت حينها، في إطار المخطط الأشمل، كما رسمته قوى تحالف الانقلاب في صنعاء، لا ينفصل عن الدور الذي اضطلعت به المنطقة العسكرية الثانية في المكلا آنذاك (2015)، بل إن دوريهما المتكاملين، على نحوٍ متزامن، لا يمكن فصله هو الآخر عن واقعة استيلاء تنظيم القاعدة على ساحل حضرموت في إبريل من عام 2015، ذلك الحدث الذي لم يكن وليد لحظة، بل ثمرة لتفاهمات مسبقة بين تحالف علي عبدالله صالح والحوثيين من جهة، وتنظيم القاعدة من جهة أخرى. وكانت أولى حلقات مسلسل هذا المخطط، كما نقرأه، حضور قائد المنطقة العسكرية الأولى في ذلك الوقت، الاجتماع الموسع الذي أُعلن فيه الإعلان الدستوري لتحالف قوى الانقلاب في الهضبة الزيدية في صنعاء، الذي أعقب الاتفاق على توزيع الأدوار للمخطط الأشمل وأدواته.
وبموجب هذا المخطط، فقد جرى تسليم ساحل حضرموت لتنظيم القاعدة دون إطلاق رصاصة واحدة، فكان انتقالًا “توافقيًا” للسلطة من زيّ عسكري إلى لثام جهادي، وغادر قوام المنطقة العسكرية الثانية، في حافلات إلى صنعاء، وانضم معظم أفرادها ــ إن لم يكن جميعهم ــ إلى تحالف الانقلاب الجديد الذي جمع صالح والحوثي.. فاستيلاء تنظيم القاعدة على ساحل حضرموت لم يكن مجرد حادثة أمنية، بل كان عرضًا لمسرحية صامتة، كُتبت في صنعاء، ومُثّلت في حضرموت، تجلّى فيها التنسيق الأمني والسياسي بين النظام السابق وتنظيم القاعدة، وهو تنسيق ليس جديدًا، بل ممتدٌ منذ ما بعد حرب 1994.
أما المفارقة الأشد غرابة، هي تبرير قيادة المنطقة العسكرية الثانية حينها عدم مقاومتها لتنظيم القاعدة بالقول: “إنّ أبناء حضرموت يكرهون أفراد المنطقة، وإنهم سيقاتلون إلى جانب القاعدة ضدها!” وهنا لا بد من الوقوف أمام هذا الكلام: فإن كانت كراهية الحضارم لتلك القوات المفروضة عليهم منذ اجتياح 1994 أمرًا لا يُستبعد، فإن ما هو أخطر مما قِيل هو ما ضُمِّن وأُسْتُبْطِن في طيّات هذا التبرير: إذ ينطوي هذا التبرير ــ بشكل فاضح ــ على اتهام مباشر للحضارم بأنهم “دواعش”، وحاضنو للإرهاب طالما أنهم ـ بحسب الرواية ـ سيقفون إلى جانب القاعدة ضد وحدات الجيش! وهو إقرار بسقوط الشرعية الأخلاقية للمنطقة العسكرية الثانية وقتها، ناهيك عما تتقاطع معه هذه السردية بوضوح مع فتاوى جماعة الحوثي التي برّرت اجتياح الجنوب بأنها جاءت لمحاربة “الدواعش”، في تكرارٍ لنفس خطاب التكفير والتضليل الذي استخدمه تحالف قوى الهضبة القديم في فتاوى حرب عام 1994، وإن كان بنسخة شيعية هذه المرة، بعدما كانت النسخة الأولى في طبعة سنيَّة، وكلا الطبعتين صادرتين جغرافيٍّا من “دار نشر واحدة”!
ولا يُخفى أن إعلان الحياد للمنطقة العسكرية الأولى في ذلك التوقيت لم يكن اعتباطًا، وكذلك الأمر بالنسبة لتسليم ساحل حضرموت إلى تنظيم القاعدة من قِبل المنطقة العسكرية الثانية، فقد جاءا الموقفان للمنطقتين العسكريتين في الساحل والوادي ارتكاسًا مباشرًا لتدخّل التحالف العربي، وما كان للمنطقة العسكرية الأولى أن تتقاعس بهذا الشكل لولا أنها كانت أداة ضمن مخطط أشمل تعطّل بفعل عاصفة الحزم، فكان التراجع إلى حين، تحت ستار الحياد!
وقد كان السيناريو المرسوم لحضرموت حينها، كما نرجّحه، استنادًا إلى رصد تتابع الأحداث وترابطها، يتمثل في تمكين تنظيم القاعدة من السيطرة على الساحل، في تنسيق عملياتي، يتحوّل بموجبه تنظيم القاعدة إلى ذريعة ضرورية لإعادة إنتاج السيطرة، عبر سيناريو ضمني مألوف متفق عليه بين الأطراف ذاتها: تسليم مؤقت يُبرّر لاحقًا عملية تحرير مزيّفة؛ ليعطي الذريعة الظاهرية لتدخل المنطقة العسكرية الأولى بحجة “تحرير” ساحل حضرموت من التنظيم الإرهابي. وعندئذٍ، تظهر المنطقة العسكرية الأولى في صورة المحرِّر المنتصر، فتنتقل السيطرة إليها كمنقذ مزعوم، فيما الحقيقة العارية تؤكد أنّ ذلك لم يكن سوى غطاء لتمكين سلطات التحالف الجديد في صنعاء من إعادة السيطرة عسكريًّا وبسط نفوذها مجددًا على كل حضرموت ساحلاً وواديًّا، وترسيخًا لنتائج حرب 1994.. وهكذا يصبح الأمن ذريعة للاحتلال، والتحرير غطاءً للسيطرة، بينما تبقى حضرموت تدفع الأثمان: أرضًا وإنسانًا، وصورةً مشوّهة في أعين الداخل والخارج، تابعة أو متّهمة، لا شريكًا في القرار!

تدخل التحالف العربي يربك مخطط انقلاب صنعاء
إلاّ أن تدخّل التحالف العربي أربك خطة تحالف انقلاب صنعاء الجديد؛ الساعية لاجتياح حضرموت برًّا، وإخضاعها لسلطة المركز المقدّس بصيغته الطائفية والتاريخية. والتفسير لدينا، إن ما كبح جماح المنطقة العسكرية الأولى، وما ألجم اندفاعها نحو تنفيذ المخطط المرسوم لها، لم يكن انضباطًا عسكريًا ولا انحيازًا أخلاقيًا، بل كان خوفًا وهلعًا من نيران طيران التحالف، الذي يتربّص في سماوات حضرموت وفضاءاتها المكشوفة: من صحاري وهضاب ووديان، حيث لا جدار يقي، ولا تلال تُخفي، في مسرح عملياتي أشبه بصحن تتوسّطه القوات كفرائس في مرمى عيونٍ لا تنام. ومن هنا، نشأ موقف الحياد الذي أعلن في لحظة مفصلية من عمر الحرب، لا عن مبدئية، بل عن حيلة سياسية، غُلِّف فيها العجز بالحكمة، والانتظار بالوقار، والكمون بالاحتساب الاستراتيجي. وكان أثقل من أن يُعدّ موقفًا محايدًا؛ بل هو انحيازٌ ناعم، ساهم في تجريد جبهة الشرعية اليمنية من قوة معتبرة، وكان خطوة استباقية لتفادي هزيمة فادحة من أول طلقة فيما لو اختارت قيادة المنطقة المغامرة في تنفيذ ما رُسِم لها من دور.

موقف “الحياد” كصفقة سياسية
إلا أن هذا الحياد لم يكن بلا ثمن؛ بل كان صفقة سياسية ذات ربح خفيّ، صِيغت بدهاء وذكاء: إذ مُنحت قيادة هذه القوة العسكرية الضاربة فرصة تسويق خطاب يتلحّف برداء الترفّع عن الصراع، بينما ظلّ شريان الإمداد ينبض من خزائن الشرعية والتحالف العربي نفسه: مرتبات، مؤن، وعتاد، تُصبّ في كيان قوة متربّصة، تدّخر قواها ليوم موعود. فالحياد المزعوم ليس سوى كمونٍ يكتنز خلفه نوايا كامنة لا يعلمها إلا الله، واستعدادٍ لتوقيت مغاير في قادم الأيام، ليس أقله استثمار الوقائع الميدانية المفروضة على الأرض اليوم؛ لتكون أكثر تأثيرًا وتحكمًا في مسارات التسويات السياسية المرتقبة، ومصير الجغرافيا السياسية في البلاد، وحضرموت في القلب منها.

أزمة “العقيدة القتالية” تُفْشِل “شمال الشرعية” في جبهات القتال كما أَفْشلت التحالف في مهمته
وفي هذا السياق، فمن الإنصاف، وعدم الفجور في الخصومة، أن نعترف بأن المنطقتين العسكريتين حينها في الساحل والوادي، وكذلك في “شمال الشرعية” اليوم عمومًا لا يفتقروا إلى الرجال ولا إلى العتاد ولا إلى الشجاعة، خلافًا لما يُصوَّر ويُصدَّر بخفةٍ وسطحيةٍ من قِبل البعض. غير أن ما يعوز هؤلاء جميعًا بحق، هو العقيدة القتالية الملائمة لمواجهة الحوثي؛ إذ إن البنية العسكرية التقليدية والعَقَدية لهذه المكونات، قد تشكّلت، ماضيًا وحاضرًا، لمواجهة الجنوب لا سواه. هذه العقيدة القتالية ضاربة الجذور في التاريخ، من القرون الغابرة وإلى يومنا هذا، متخذة في كل مرحلة شعارًا وتأويلاً دينيًا يتناسب مع السياقات السياسية والزمانية.. عقيدة سُبِكت من عناصر شتى شَكلت في مجملها ذهنية وأرضية فكرية مؤطّرة بعقلية القبيلة والغنيمة، متمنطقة بفقه التُقية، والنكث بالعهود والمواثيق، متمتعة بخصلة النفَس الطويل والمراهنة على الزمن، لم تقتصر على النخب فحسب، بل تسلّلت بفعل تراكم القرون الطويلة إلى شرائح اجتماعية واسعة، فغدت تلك العقائد حاكمة لمواقف أغلب النخب وسلوكها راسخة في الوجدان، حتى إن عقود “ثورة سبتمبر” التي جاءت على أنقاض الإمامة لم تُفلح في زحزحتها، بل لعلّها ثبّتتها تحت عباءة الجمهورية الشكلية. ولهذا، حين عاد أحفاد الإمامة على هيئة جماعة الحوثي، وجدوا تلك الذهنية والأرضية الفكرية كما تركها أجدادهم، حاضنة ووجدانًا مروضًا، إلى الحدّ الذي ارتضى فيه علي عبدالله صالح ـ وهو رأس النظام الجمهوري السابق ـ أن يؤدي وظيفة “عُكفي” في بلاطهم، وقَبِلت فيه قبائل صنعاء بدفع أبنائها إلى جبهات القتال بلا اعتراض!
ولهذا، لا نستغرب فشل “شمال الشرعية” المتكرّر في جبهات القتال، كما في إعلامه الرسمي والحزبي والخاص، إذ ظلّت فضيلة إنصاف الجنوب وتضحيات أبنائه غائبة ومشوّهة في أحسن الأحوال. بل إن هذه الأدوات افتقرت لأبسط شروط الحياء والموضوعية، وواصلت تزييف الوعي وتشويه التحالف العربي، في خضمّ معركة وطنية كان يُفترض أن تُخاض بصفٍّ واحد. هذا ما مَنح تحالف الهضبة الزيدية الجديد كل ما يحتاجه من هوامش المناورة وممكنات التمكين، دونما خوضٍ في معارك عسكرية حقيقية معه، بل عبر تصدير شتّى صنوف الحروب الصامتة ــ بل والناعقة ــ ضد الجنوب! وبذلك فأن الهضبة ـــ بشقّيها الشرعي في المنافي، والانقلابي في صنعاء ـــ قد أفلحت، كعادتها، في تحويل التحالف العربي إلى شاهد زور، وأفشلته فيما أتى من أجله، كما أفشلت من قبله الرئيس جمال عبدالناصر في ستينيات القرن الماضي! ومع ذلك، لا ينبغي أن يغيب عنّا الإقرار والإنصاف، اللذان يقتضيان ألا نغفل وجود رجالات شريفة من القبائل ومثقفين من الشمال، لهم جميعًا مكانتهم واحترامهم، وممن لم ينجرفوا خلف تيارات الحقد والغلو، ونُجلّ أدوارهم المشهودة والمعروفة، تلك التي لا ينكرها إلا جاحد، أو خصيم فَجَر في الخصومة.

تحالفات قديمة وجديدة تتعانق

أما ما تُخبِّئه لنا الأيام من مفاجآت هذه القوة للمنطقة العسكرية المتوثبة في صمتها في وادي وصحراء حضرموت، فسينكشف حين تهدأ العاصفة وتُسدل ستائر التسوية السياسية ما بعد الحرب، ولو بعد حين وإن طال لبعض الوقت. حينها، لن يكون لا مستغرَبًا أو مستنكَرًا، أن يتعانق حلفاء الهضبة الزيدية الجدد مع حلفاءها القُدَماء؛ (تحالف 2015 يُصافح تحالف 1994)، لإعادة إنتاج التاريخ المفضل لدى نخب المركز المقدّس ــــ القبلية والعسكرية والدينية والسياسية ــــ ممن لا يرون في حضرموت إلا غنيمة مؤجلة مستحقة لغزوات سابقة ولاحقة! في تلك اللحظة، لا يُستبعد تقدُّم “الجيش المحايد” تحت راية التحالُفَيْن معًا، لا دفاعًا عن اليمن من المشروع الإيراني الصفوي، بل صونًا لوحدةٍ لم يبقَ في الضمائر منها سوى حقها في دفن كريم، فيما الطيران الذي كان شبحًا مرعبًا بالأمس، يكون قد غادر المسرح اليوم، بعد أن وجد التحالف العربي لنفسه “مخرج طوارئ” من المأزق اليمني، يليق بهزيمة ناعمة. وعندها سيُقال: إن الأمر شأن داخلي، يخصّ اليمنيين وحدهم، بعد أن استعصى أمرهم!

“حياد” أَتقن فن انحيازه
وبعد كل ما تقدّم، وما أفضى إليه حياد المنطقة العسكرية الأولى في وادي حضرموت من اختلال في موازين القوى، لصالح انقلاب الهضبة في صنعاء، وخصمًا من حساب قوى الشرعية اليمنية، لا بهدير المدافع، بل “بالسكوت المسلح” يطرح السؤال نفسه: هل يُعدّ موقفًا خارج الصراع، ذلك الذي يُضعِف الحلفاء ويقوِّي الخصوم؟

حضرموت على مفترق طرق
وإزاء هذا المشهد المأزوم والملبد بالغيوم، تقف حضرموت اليوم على مفترق طرق حاد، في ظل فراغ سياسيّ مقلق، كحصيلة لعملية تجريف سياسي وثقافي ممنهج امتدّ لعقود.. فخطر تشظّي حضرموت و”تشليحها” بات يلوح في الأفق، بين ساحلٍ تحرّر من الهيمنة العسكرية الشمالية، فبنى قواه العسكرية والأمنية والإدارية من أبنائه، في ظل محاولات مستميتة مستمرة لإفراغ هذا المنجز من محتواه، وبين وادٍ وصحراء لا يزال وضعهما رهن خطر السيطرة العسكرية الشمالية – عسكريًا وأمنيًا وإداريًا – وإن بدا أبناء المنطقة في الواجهة، إلا أن القرار الاستراتيجي سيُتّخذ ويُفرض، حين تُوزَن الأمور بميزان الجدّ، في لحظات الحقيقة حين تتكشف الأقنعة، من قِبل القوى المتحفّزة المسيطرة على الأرض. وما يزيد الأمر تعقيدًا ما يُفرَّخ من كيانات عسكرية وسياسية على أرض حضرموت، لا تزيد المشهد إلا اضطرابًا وانكشافًا. مضافً إلى كل ذلك، وربما أخطره، ما تشهده حضرموت ذاتها من انقسامات أفقية ورأسية بين أبنائها، لا تعبر إلا عن خواء سياسي مُفجع متمثل في غياب المشروع الجامع والفراغ القيادي الوازن.
وإزاء ذلك، فالواجب يُملي على رموز حضرموت في السلطة المحلية الدنيا والعليا في أجهزة الدولة بمختلف مستوياتها، وعلى النخب والمكونات الحضرمية بدون استثناء، أن تُعلى مصلحة حضرموت وأهلها على نوازع الذات والأنانية السياسية المُفْضية إلى الفتن والنزاعات المهلكة للمجتمع، والتوجه نحو العقلانية والحكمة السياسية المؤدية إلى حل الخلافات بالحوار البنّاء، وعدم الانجرار لأهواء التحزّب، وشهوات التشفي والضغائن والأحقاد، وذلك بانضواء جميع هذه النخب والمكونات تحت مظلّة واحدة، هي مظلة مؤتمر حضرموت الجامع لا سواه، باعتباره الرافعة السياسية والاجتماعية الوحيدة لحضرموت، والمخوّل الأوحد برسم الموجهات الاستراتيجية لمستقبل حضرموت، على أن يُصحَّح مساره وتُقوَّم اعوجاجاته من داخله لا من خارجه بقدر المستطاع؛ ليكون المرجعية العليا التي لا تعلوها مرجعية. (انظر مقالنا) وفي هذا السياق، تأتي أولوية تأطير التشكيلات العسكرية تحت مظلة المؤسسات العسكرية والأمنية الشرعية القائمة في المقدمة على غيرها من الأولويات، وكذلك الأخذ بمنهج إصلاح مؤسسات الدولة المدنية الأخرى من داخلها، وليس بالتمرد عليها أو تسفيهها وهدمها، مهما كانت الملاحظات والمآخذ على أدائها وعلى القائمين عليها. كما أن الوضع الراهن المتمثل في غياب وتغييب الدولة، يستوجب رشدًا سياسيًّا في إيجاد صيغة متفق عليها بموجبها تكون “القوة الخشنة” لحضرموت هي الأخرى تحت إشراف وتوجيه قيادة سياسية مُجمع عليها، منبثقة من مؤتمر حضرموت الجامع بعد تصويب بوصلته؛ لتجنب انفلات الأمور وخروجها عن السيطرة، وبما يعيد ضبط علاقة طرفي معادلة السياسة والقوة ببعضهما، على النحو الذي تظل فيه السياسة موجّهًا حكيمًا راشدًا لعناصر القوة، ولرسم موجهات حضرموت المستقبلة، لا أن تُخْتطَف السياسة من قبَِل التشكيلات المسلحة أو العصبيات ما قبل الدولة.. هذا إنْ أردنا خيرًا لحضرموت، كما نرى.. فحضرموت ليست إقطاعية خاصة بهذا أو ذاك من المكونات أو التشكيلات، بل مُلك أبنائها بتمثيل وازن مشترك ومجمع عليه من قِبلهم. ولا يقل أهمية عما سبق، مغادرة ثقافة مجاراة ونفاق الرأي العام من خلال تغييب الوعي بتخديره بالثرثرة والنفخ الشوفيني في أمجاد رماد الأزمان الغابرة وخلق يقينًا زائفًا، على حساب ارتقاء الوعي الحقيقي لتشخيص آفاتنا المجتمعية في عمومها.. لقد آن الأوان أن تتحرر الخطابات من رطانة الاستعراض، ومهاترات العبث، ورتابة المرسل من الكلام، لتتّجه نحو خطاب يحمل قوة المعنى والمضمون، باتجاه حث الُخطى صوب مشروعٍ سياسي واقعي يمكن الوثوق به والمراهنة عليه، تكون حضرموت قاطرة له، أو مقطورة به.

خاتمة ورجاء
وإن كان لنا من رجاء في خاتمة هذه القراءة والتأمّل، فكل ما نأمله، أن تُخطِّئ الأيام ما تراءى لنا من مآلات في شواهد الأمس وراهن اليوم، وأن تكون رؤيتُنا هذه مجرد وساوس نفسٍ أمّارة بالسوء، أرهقتها تجارب التاريخ وأثقلتها خيباته المتكررة. نأمل أن يكون الزمن ـ كما يفعل أحيانًا ـ أرحم من مقدماته، وأعدل من قراءة مساراته، وأن يختار ـ في لحظة ما ـ طريقًا لم يُرسم بعد، مغايرًا لما خطّه الظاهر من شواهده ومؤشراته.. وكما يُقال: “فبعض الكلمات لا تُكتب لتُقرأ، بل لتُوقف انهيارًا قبل أن يبدأ.”
والله من وراء القصد وهو الموفق والمستعان

إغلاق