قصر المنيصورة من بصمات الأجداد الخالدة وشاهد جمال لا يشيخ
كتب / مبارك محفوظ باخربصة
الاحد 29 يونيو 2025
وأنا أقف صباح أمس السبت الثالث من محرم 1447هـ أمام قصر “المنيصورة” بتريم، الذي بناه السيد أحمد بن عمر بن يحيى في سنة 1351هـ – 1932م وقد أوقفني تأمله عن الاستمرار في جولتي الرياضية المعتادة، وقفت متأملا ناظرا بعيني القلب لا الجسد رغم أني كثيرا ما أمر بجانبه ولكن مرور العابر، وجدتني أغوص في دهشة لا تنقضي من عبقرية أولئك الأجداد، الذين شيدوا من الطين قصورًا، ونسجوا من التراب حكاياتٍ لا تزال شامخة، تتحدى الزمن وتقهر النسيان.
تأملت كل زاوية، كل نقش، كل قوس يعلو الجدران البيضاء التي تقادمت عليها السنون ، فلم تزدها إلا وقارًا وهيبة. هنا لا ترى مجرد جدران طينية صامتة، بل تشهد عبقرية أيدٍ مبدعة، صنعت الجمال من لا شيء، وبنت الروعة من أبسط أدوات الطبيعة، دون هندسة رقمية ولا آلات حديثة، ولا خرائط ثلاثية الأبعاد، فقط طين الأرض الذي تحالفوا معه، وبعرق جباههم الذي سقوا به أرضهم، فأبدعوا ذوقا لا يتكرر، فامتدت يدي إلى جيبي وأخرجتُ هاتفي لأوثّق هذه اللحظة بصورة تحفظ هذا المشهد البهيّ، وتخلّد لحظة امتزجت فيها روعة المكان بنشوة التأمل مع أول خيوط شمس الصباح.
أجدادنا الذين ربما عاشوا في بيوت بسيطة، بجيوب خاوية، لكن عقولهم وقلوبهم كانت تختزن الإبداع، وفطرهم صاغت هذا الجمال المدهش الذي يقف اليوم في وجه رياح الزمن، شامخًا كأنه يتحدى الأجيال اللاحقة: “ها نحن هنا… وهذا إرثنا بين أيديكم.”
يا له من تفرّد…! تلك القباب الصغيرة التي تعتلي زوايا القصر، وتلك الأعمدة التي تنتصب بزينتها الطينية المنحوتة يدويًا بتفاصيلها التي تنبض بالحياة وبجدرانها التي لا تحمل الطين وحده بل نسمة أرواح وملامح الذين مروا وتركوا خلفهم عبق الزمان … دقّة هندسية مذهلة، وتناسق لوني هادئ، يعطيك إحساسًا أن هذا المكان كُتب له الخلود.
مفارقة مؤلمة تمر في خاطري: اليوم، مع كل ما نملكه من آلات، وبرامج تصميم، وأموال، وتقنيات هندسية متطورة، في زمن التكنولوجيا والخرائط ثلاثية الأبعاد يعجز كثيرون عن نسج تحفة تقارب هذا السحر أو يبنوا صرحا واحدا يحمل هذا الدفء، وهذا العمق، وهذا الجمال الفريد الذي صنعه أجدادنا بأيديهم العارية، وإيمانهم العميق، وارتباطهم الصادق بالأرض.
إن قصر المنيصورة، وغيره من معالم تريم العريقة، ليست مجرد أبنية، بل هي قصائد صامتة، نُحتت في جدرانها ملاحم الإبداع البدائي الأصيل، حين كانت العمارة ليست فقط بناءً، بل ترجمة لعشق الإنسان لأرضه، ومرآة لما يعتمل في داخله من شغف، وأصالة، وبصيرة.
فوقعتُ في تلك اللحظة أسيرًا لجمال التاريخ، عاجزًا عن مواصلة جولتي إلا بعد أن أغمضتُ عيني، واستنشقتُ عبق الماضي، وأدركتُ أن إبداع الأجداد سيظل مدرسة لا تجاريها أدوات الحاضر، ولا يملك جيل التقنية مفاتيح أسرارها إلا إذا عاد للبساطة، واتصل بجذوره، وتعلّم من الطين كيف يُبعث الجمال من العدم.






