دعوة احمد علي… حين يتكلم العقل في زمن العبث
بقلم / ياسر المسوري
ليست كل الدعوات السياسية متشابهة، فبعضها يُولد للاستهلاك الإعلامي، وبعضها الآخر يُطلق لأن الصمت يصبح جريمة وطنية. دعوة نائب رئيس المؤتمر الشعبي العام أحمد علي عبدالله صالح، التي وُجهت إلى مجلس القيادة الرئاسي وكافة القوى والتنظيمات السياسية، تنتمي بوضوح إلى النوع الثاني؛ دعوة جاءت لأن المشهد بات خطيرًا، ولأن العبث كاد يتحول إلى سياسة، ولأن الوطن لم يعد يحتمل مزيدًا من المغامرات الصغيرة التي تُلبس لبوس القضايا الكبيرة.
الدعوة لم تأتِ في فراغ، بل في لحظة سياسية مشحونة، تشهد تصعيدًا ميدانيًا مقلقًا في بعض المحافظات المحررة، وتوترات داخل معسكر يفترض أنه يقاتل من أجل هدف واحد هو استعادة الدولة. وما يحدث اليوم ليس خلافًا سياسيًا طبيعيًا، بل انزلاق خطير نحو صراعات داخلية تفتح الأبواب للحوثي من حيث لا يشعر المتصارعون، وتمنحه ما لم يحققه في الجبهات: شرعية الفوضى.
ما قاله أحمد علي عبدالله صالح بوضوح، ودون مواربة، هو أن المصالح الخاصة والمشاريع الضيقة أصبحت أخطر على اليمن من العدو نفسه، وأن استمرار هذا السلوك لن يؤدي إلا إلى تفكيك ما تبقى من الجبهة الوطنية، وإلى تحويل المناطق المحررة إلى ساحات صراع بديلة عن مواجهة الانقلاب الحوثي. وهذا تشخيص قاسٍ، لكنه واقعي، لأن الحقائق لا تُجمَّل في لحظات الخطر.
الدعوة كانت حادة في مضمونها لأنها تخاطب عقولًا اعتادت تجاهل الإنذارات المبكرة. حين دعا إلى الوقف الفوري للتصعيد، كان يقول ضمنيًا إن هناك من يدفع بالأوضاع نحو حافة الهاوية وهو يظن أنه يحقق مكسبًا سياسيًا، بينما هو في الحقيقة يراكم خسائر وطنية لا تُغتفر. وحين شدد على رفض الخطوات الأحادية، كان يضع إصبعه على جوهر الأزمة: قرار يُتخذ خارج الإجماع يتحول من حق سياسي إلى تهديد وطني.
الأهم في هذه الدعوة أنها لم تكن انتقائية، ولم توجَّه لفريق دون آخر، ولم تُكتب بلغة المنتصر أو المهزوم، بل بلغة من يرى المشهد من أعلى، ويدرك أن الدولة لا تُستعاد بالفوضى، ولا تُبنى على كسر الشركاء، ولا تُحمى بتفجير الخلافات. هذا خطاب دولة في زمن غابت فيه الدولة، وخطاب مسؤولية في لحظة يهرب فيها كثيرون من المسؤولية.
الدعوة أيضًا تحمل إدانة صريحة لمن يحاول توظيف التوترات لصناعة نفوذ أو فرض أمر واقع، لأن النتيجة الحتمية لذلك هي زعزعة الأمن وإرباك الجبهة الداخلية وإطالة أمد الحرب. والحديث عن الحوار المسؤول ليس ترفًا سياسيًا، بل محاولة أخيرة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه قبل أن تتحول الخلافات إلى دم، والدم إلى قطيعة، والقطيعة إلى انهيار شامل.
من يقرأ هذه الدعوة بعين الحقد السياسي سيراها تدخلاً غير مرغوب فيه، أما من يقرأها بعين الوطن فسيفهم أنها جرس إنذار متأخر، وأن تجاهلها سيكون بمثابة إعلان فشل أخلاقي وسياسي لكل من يدّعي الانتماء إلى مشروع الجمهورية. فالتاريخ لا يرحم من يضيّع الفرص، ولا يغفر لمن يكرر الأخطاء وهو يعرف نتائجها مسبقًا.
الخلاصة أن أحمد علي عبدالله صالح لم يقدّم حلًا سحريًا، لكنه قال الحقيقة التي يهرب منها كثيرون: لا معركة تُكسب بلا وحدة، ولا دولة تُستعاد بخطاب الكراهية، ولا نصر يأتي على أكتاف الانقسام. إما أن تتحول هذه الدعوة إلى نقطة بداية لتصحيح المسار، أو ستُسجل كآخر محاولة عقلانية قبل أن يبتلع الضجيج ما تبقى من صوت الوطن.
وفي السياسة، كما في الحروب، هناك لحظة يصبح فيها الكلام الصادق أقوى من الرصاص… وهذه كانت واحدة من تلك اللحظات.






