اعلانك معنا تحقيق اهدافك التجارية وزيادة مبيعاتك
ابحث في الموقع
تاربة اليوم - الموقع الإخباري اليمني

فجيعة في ليلة كروية هادئة

فجيعة في ليلة كروية هادئة

بقلم / جواد النابهي

في ليلٍ باردٍ من ليالي الشتاء التي اعتدتها، كان البرد حاضرًا، لكنه بدا هذه المرة أهدأ، وكأن الهواء نفسه يوصيني ألا أقطع سكونه، ومع ذلك اتخذت مكاني، في زاوية هادئة من الجبل الحارس لقريتي الصغيرة، انكمشت تحت عباءتي من البرد، جلستُ ألوذ بالسكينة، وامضغ أعشاب القات ، وأسرح مع وهج الشاشة الصغيرة التي تنقل صراع الكبار في دوري الأبطال، وبدأ كل شيء مستعدًا ، أنا، والليل، والمباراة التي كانت تمضي كقصيدة صاخبة، بينما أنا غارقٌ في تفاصيلها، لا أسمع إلا دقات قلبي وهدير المعلّق، وصخب الجمهور.

مرّت الدقائق الأولى عادية، حتى بدأ الإنسجام يحاصرني شيئًا فشيئًا، لم أعد أسمع إلا صوت المباراة، ولم أرَ إلا الشاشة؛ وكأنني انفصلت عن المكان تمامًا، وصرت وحدي في ملعبٍ بعيد.

وفجأة، ومن عمق العتمة، انفرج الصمت عن رعبٍ لم أكن أتوقعه، فحول أكثر لحظاتي هدوءًا إلى صدمة لن أنساها ما حييت، كانت ليلة باردة، والجو ساكن تمامًا، والقرية غارقة في سكونٍ لا يقطعه إلا صوت المباراة، كل شيء كان طبيعيًا، وفجأة، وفي عمق الظلام، من مكان لم أنتبه له قط، تدفقت حركة سريعة، كلمعةٍ تشق الهواء، لم يُمهلني الليل فرصة أن أسمع وقع خطواتها، ولا أن أحسُ بارتداد الأرض، كل شيءٍ حدث في جزء مجنون من الثانية، رعبٍ صغيرٍ يركض نحو الضوء، لم أدرِ كيف ولا من أين، وإذا بشيءٍ أبيض يقفز فجأة إلى حضني دون مقدمات! إحساس لا يمكن وصفه، قلب توقف، صرخة مكبوتة، ودهشة تشل التفكير لثوانٍ، ارتجف جسدي، وأحسست لوهلة أن البرودة ليست في الجو، بل في تلك الصدمة التي اخترقت القلب.

كان أرنبًا ،،، نعم أرنب مذعور يجري بسرعة جنونية، هاربًا من شيء لم أستطع رؤيته بوضوح لسواد الليل، ربما كلبٌ يطارده، أو لربما نوعٍ من الحيوانات المفترسة أكلات اللحوم، لم أسمع وقع خطواته، لم ألحظ اقترابه، فقط قَفَزَ شيءٌ أبيض إلى حضني مباشرة، قفزة مفاجئة أوقفت نبضاتي للحظة.

ارتفعت يداي بلا وعي، اختنق صوتي، وتجمّد الدم في عروقي، للحظة صدقت أنني لم أعد في مكاني، وأن المجهول قرر الظهور على هيئة كابوس حقيقي.

لكن الكابوس كان أرنبًا ؛ أرنب صغير ، لاهث، مذعور، ينتفض كمن هرب من موتٍ كان يركض خلفه، لم يلتفت إليّ، ولم يعتذر عن فجيعته لي، فقط استخدمني جدارًا بشريًا يحتمي خلفه، وبمجرد أن لامس حضني، أنطلق مجددًا إلى الظلام كما جاء، مسرعًا، كأن وجوده أمامي مجرد محطة عبور في رحلة نجاة يائسة.

بقيت على وضعي ساكنًا، أحدّق في العتمة التي ابتلعته، حاولت أن أفهم شيئًا، أن ألتقط أنفاسي التي خرجت بغير إرادة، لكن كل ما استطعت فعله هو النظر إلى يديّ المرتعشتين ثم إلى الهاتف الذي انقلبت شاشته على الأرض.

من بعيد، سمعت نُباحًا خاطفًا، ثم اختفى، وعرفت حينها ما الذي كان يطارده، عدت لأمسك الهاتف، فقط لأجد المعلق يصرخ “هدف! هدف! يا الله على المتعة!”، ضحكت، ضحكة باهتة، نصفها سخرية ونصفها ارتباك، من يهتم بالمتعة الكروية الآن وأنا للتو نجوت من صدمة كان بطلها أرنبًا قرر يخترق خصوصية قلبي؟!

مسحت على صدري كمن يحاول إستعادة نبضه الناقص، وهمست، لا أدري إن كنت أعاتبه أم أشفق عليه، “الله يسامحك يا أرنب لقد ارعبتني أكثر مما ارعبك الكلب”.

ومع أن الموقف الآن يبدو مضحكًا أو طريفًا للبعض، لكنه وقتها كان صدمة حقيقية، فمن يتوقع أن يقفز أرنب مذعور إلى حضنه وسط عتمة الليل، وهو في قمة الإندماج مع إحدى مبارايات ليالي الأبطال في القارة العجوز؟

ومنذ تلك الليلة، لم يعد الجبل مجرد مكان هادئ أتابع فيه المباريات، بل صار مكانًا أحمل فيه ذكرى قفزة لن ينساها قلبي، مهما هدأ الليل.

إغلاق