من بناء الأغنية الحضرمية إلى تأسيس الذائقة العربية الحديثة: في الذكرى الثامنة لرحيل الفنان أبو بكر سالم بلفقيه (10 ديسمبر 2017 – 10 ديسمبر 2025م)
تاربة_اليوم /كتابات واراء
بقلم: الدكتور عبدالناصر سعيد محمد البطاطي
10 ديسمبر 2025م
في الذاكرة العربية أسماء صنعت حضورها بالشهرة العابرة، وأخرى رسخت مكانتها بعمق الأثر، غير أن قلة قليلة هي التي استطاعت أن تعيد تشكيل الذائقة الجمالية ذاتها، وأن تؤسس وعيًا فنيًا مستدامًا يتجاوز حدود اللحظة الزمنية. ويأتي الفنان والأديب الكبير أبو بكر سالم بن زين بلفقيه، رحمه الله تعالى، في مقدمة هذه القلة النادرة، بوصفه مشروعًا ثقافيًا وفنيًا متكامل الأبعاد، لا مجرد صوت جميل أو ملحن موهوب، بل ظاهرة إبداعية أسهمت في إعادة تعريف الأغنية العربية الحديثة، شكلًا ومضمونًا ووظيفة.
لقد تشكلت شخصية أبي بكر سالم بلفقيه في حضرموت، ذلك الفضاء الحضاري العريق الذي راكم عبر قرون طويلة تجربة ثقافية غنية، تداخل فيها البُعد العربي الإسلامي مع امتدادات حضرمية في شرق أفريقيا وجنوب شرق آسيا. في هذا السياق تبلورت حساسيته الجمالية المبكرة، حيث تشابكت اللغة بالفطرة الموسيقية، وتجاورت الحكمة الشعبية مع العمق الشعري، فكان نتاج ذلك فنانًا يمتلك القدرة على تحويل المحلي إلى إنساني عام، دون أن يفقده روحه أو خصوصيته.
ويمثل أبو بكر سالم بلفقيه نموذجًا نادرًا للفنان الشامل، إذ جمع بوعيٍ متوازن بين كتابة النص الشعري، وصناعة اللحن، وأداء العمل الغنائي. هذه الثلاثية الإبداعية لم تكن عنده تراكبًا عرضيًا، بل وحدة عضوية متكاملة، لذلك جاءت أعماله متماسكة البناء، حيث تتطابق الكلمة مع اللحن، ويعبر الأداء عن المعنى دون افتعال أو مبالغة. وقد أسهم هذا التكامل في الارتقاء بالشعر الغنائي، ليغدو نصًا قابلًا للتذوق الفني والتأمل الدلالي، لا مجرد وعاء للصوت.
وتكشف التجربة اللحنية والفنية لأبي بكر سالم بلفقيه، وكذا تعاونه في كثير من الأعمال الفنية مع الشاعر الحضرمي الكبير حسين أبو بكر المحضار عن قدرة لافتة على الجمع بين الأصالة والتجديد؛ فقد حافظ على روح اللحن الحضرمي وإيقاعاته وخصوصيته التعبيرية، وفي الوقت ذاته انفتح على الموسيقى الخليجية والعربية، من غير أن يقع في فخ الاستنساخ أو الذوبان. لقد جدد من داخل التراث، لا عبر القطيعة معه، بل بإعادة توظيفه وتوسيعه، وهو ما جعل ألحانه مألوفة للسمع، عميقة في الوجدان، وقادرة على العبور الزمني.
أما على مستوى الأداء الصوتي، فقد تميز أبو بكر سالم بصوت تعبيري قبل أن يكون استعراضيًا. قوته الحقيقية لم تكمن في المساحة الصوتية وحدها، بل في التحكم بالانفعال، ودقة النطق، والقدرة على إيصال المعنى بأقل قدر من الزخرفة وأكبر قدر من الصدق. هذا الوعي الفني جعل أداءه متزنًا، بعيدًا عن الاستهلاك اللحظي، ومكنه من الحفاظ على حضوره وتأثيره عبر أجيال متعاقبة، في زمن شهد تحولات حادة في الذائقة الموسيقية.
ولم تتوقف قيمة أبي بكر سالم بلفقيه عند حدود التجديد الفني، بل تجاوزته إلى بُعدٍ إنساني وعربي أوسع. فقد حملت أغنيته قيم الحب النبيل، والحنين العميق، والحكمة المتولدة من التجربة، وهي قيم مشتركة تتجاوز اللهجات والخرائط. من هنا استحق عن جدارة أن يُنظر إليه بوصفه أحد أبرز سفراء الأغنية الحضرمية إلى الفضاء العربي، وأحد بناة الجسر الوجداني بين المحلي والإنساني العام.
وفي الذكرى الثامنة لرحيل هذا الفنان العملاق، لا يكون الوفاء له بالرثاء وحده، بل بإعادة قراءة منجزه بوصفه إرثًا معرفيًا وجماليًا جديرًا بالدراسة والتحليل الأكاديمي. لقد ترك أبو بكر سالم بالفقيه مدرسة فنية قائمة بذاتها، وصيغة متكاملة للتلاقي بين الثقافة والفن، وبين الجذور الراسخة والأفق العربي الرحب. رحمه الله رحمة واسعة، وبقي صوته شاهدًا حيًا على أن الإبداع الصادق لا يشيخ، وأن الفن الحقيقي هو ما يصمد أمام الزمن ويقاوم النسيان.
مع خالص تحياتنا وتقديرنا للجميع.






