اعلانك معنا تحقيق اهدافك التجارية وزيادة مبيعاتك
ابحث في الموقع
تاربة اليوم - الموقع الإخباري اليمني

‏شَعرة في إبط الشيطان

‏شَعرة في إبط الشيطان

بقلم/ علي أحمد الجفري

لا ينتهي الجدل حول العلاقة العميقة بين المسرح والموسيقى، فليس هناك فن يسمو على آخر؛ فكلاهما يكمل الآخر في رسم لوحة الحياة، كم من مرة وصفنا مشهداً مسرحياً بأنه تحفة فنية نابضة بالإيقاع، وكم مرة وصفنا مقطوعة موسيقية بأنها مسرحٌ عاطفي تتجسد فيه المشاعر والصور، فالعلاقة بينهما علاقة بُنية ونظام وتداخل وانسجام، يذوب فيها الصوت بالحركة، والفكرة بالإيقاع.

ولعل المقولة الشهيرة: “أعطني خبزًا ومسرحًا أعطيك شعبًا مثقفًا” لم تأتِ من فراغ؛ فقد كان المسرح على مدى التاريخ منارة للوعي، وساحة لتشكيل الثقافة، ومرآة تعكس تحولات المجتمع وتحدياته. وبما أن الأدب التمثيلي من أكثر الفنون حاجة إلى الرعاية، فقد كان من الطبيعي أن يتأثر الإرهاب بالمسرح وأن يؤثر فيه.

المسرح والإرهاب… شعرة في إبط الشيطان

قد يتساءل القارئ: ما علاقة هذا العنوان الغريب بالموضوع؟

إن الإرهاب – في جوهره – ليس أكثر من شَعرة نبتت في إبط الشيطان؛ منطقة رطبة مظلمة تنمو فيها القبح والفوضى، فإذا تعاملنا معه بالحل الأمني وحده، فنحن كمن يحلق تلك الشعرة بموس، لتعود أكثر كثافة وخشونة، أما الحل الجذري فيكمن في نتفها من الجذور، وذلك لا يتحقق إلا عبر الوعي، الفن، الثقافة… والمسرح تحديداً.

مسرح حضرموت… تاريخٌ ريادي وحضورٌ متجذر

مارس المسرح الحضرمي دوراً اجتماعياً وثقافياً مؤثراً منذ ثلاثينيات القرن الماضي، حين انطلقت أولى التجارب عبر المسرح المدرسي، ثم عُرضت مسرحية “حرب البسوس” في المسرح الثقافي، لتبدأ بعدها مرحلة ازدهار مسرحي تبنّتها الأندية الرياضية في الأربعينيات، من خلال هذا النشاط، تشكّلت نقابات فنية وفرَق مسرحية وشعبية أثرت المشهد وارتقت بالوعي.

مسارحنا أسيرة… وفنانوها في غرفة الإنعاش

ورغم هذا التاريخ العريق، غاب المسرح الحضرمي عن الساحة في السنوات الأخيرة بشكل يثير أكثر من سؤال.

فالمسرح – بما يمثله من انعكاس صادق للحياة، ومنبر للفضيلة، ومساحة للنقاش الإنساني – ظل عبر العصور أحد أهم أدوات نشر الثقافة، حتى في فترات الظلام التي حاربته قبل أن تعود فاعليته أقوى من ذي قبل.

المسرح والإرهاب… معركة وعي لا معركة سلاح فقط

عاشت المكلا مرحلة سوداء حين سيطر فكر الظلام على تفاصيل الحياة اليومية؛ منعوا الأغاني والموسيقى والأعراس، وحولوا المدينة إلى مأتم كبير، يحقنون سكانه بأناشيد الموت بدلاً من نشيد الحياة.

ورغم أن تحرير المدينة أعاد الأمن للمشهد، فإن المواجهة العسكرية – على أهميتها – ليست كافية.

فمحاربة الفكر المتطرف يحتاج إلى أدوات ناعمة، إلى فنون تُعيد صياغة العقل، وإلى مسرح يزرع الوعي ويهذب الذوق ويُعيد الروح إلى الناس، مكافحة الإرهاب بالثقافة ليست حرباً على الدين، بل دفاعٌ عن الحياة المدنية الحضارية.

فرق مسرحية شقت طريقها بإمكانات ذاتية

ورغم التحديات، ظهرت فرق استطاعت – بجهود ذاتية – أن تُعيد البسمة وسط الركام، مثل:

فرقة البندر للمسرح، فرقة الزاهر الكوميدية – غيل باوزير، فرقة نجوم حضرموت للمسرح الكوميدي والرقص الشعبي، فرقة الخلافة للتراث الشعبي التي قدمت منولوجات ساخرة تنتقد الواقع بأسلوب فكاهي، فرقة الفقيد برمة، إحدى أعرق الفرق المسرحية التي تجاوزت الخمسين عاماً من العطاء ولا تزال حاضرة رغم كل الظروف.

قدّمت هذه الفرق عروضاً كوميدية وتراثية ومسرحية أعادت الحياة إلى المشهد الثقافي، وأثبتت أن روح الفن لا تموت مهما اشتدت العواصف.

 المسرح ضرورة لا ترفاً

اليوم، أصبح المسرح الحضرمي ضرورة اجتماعية وثقافية وأمنية أكثر من أي وقت مضى، وعلى مكتب الثقافة والسلطة المحلية أن يعيدا تفعيل هذا الفن ليكون، منبراً للوعي، ومساحة للحوار، ووسيلة للتربية المدنية، ووسلاحاً فكرياً في مواجهة التطرف

المسرح ليس مجرد وسيلة للضحك والمتعة… بل منصة تُبنى عليها العقول وتُصنع من خلالها القيم.

ختاماً

إن الإرهاب ليس سوى شعرة عابرة في إبط الشيطان؛ تنبت لأننا نترك الظلام يتكاثر في الهوامش، والمسرح – وحده – يمتلك قدرة فريدة على إضاءة تلك الهوامش، وكشف القبح، وتحويل الخوف إلى وعي، والظلام إلى فهم، والرتابة إلى حياة نابضة.

فإذا كان الأمن يقطع الشعرة، فالمسرح قادر على اقتلاع الجذور التي تُنبتها، لأنه يخاطب العقل ويهذب الروح ويصنع الإنسان.

ولهذا، فإن إحياء المسرح الحضرمي اليوم ليس مهمة ثقافية فحسب، بل ضرورة وجودية في معركة تتجاوز السلاح إلى معركة وعي، ننتصر فيها حين ندرك أن الحياة لا تُهزم إلا حين نصمت، وأن الفن – منذ بدء الخليقة – كان دائماً أعظم من كل قبح، وأبقى من كل شيطان.

إغلاق