المنظمات بين وهم التنمية وواقع التفكيك: كيف أُفرغت مؤسسات الدولة اليمنية من دورها الحقيقي؟
بقلم / عبدالله عمر حيمد سعد
الاثنين 24 نوفمبر 2025
شهدت اليمن خلال السنوات الماضية تمدداً واسعاً للمنظمات التي دخلت البلاد تحت عناوين الإغاثة والتنمية والدعم المجتمعي، لكن هذا التوسع لم يكن مجرد نشاط إنساني، بل تحول تدريجياً إلى عامل مؤثر في بنية الدولة نفسها، حتى بات حضور هذه المنظمات يشكل حالة “دولة داخل الدولة”، بينما تراجعت مؤسسات الدولة عن أهم مسؤولياتها التنموية والإدارية.
لقد كانت التنمية في اليمن عملاً حكومياً واضحاً تمارسه الوزارات والهيئات المختصة، لكن مع كثافة تدخل المنظمات جرى إزاحة الدولة من موقعها الطبيعي، وانتقلت عملية التخطيط والتنفيذ والرقابة من أجهزة الدولة إلى مكاتب تلك المنظمات، ولم يعد للدولة سوى دور رمزي أو حضور بروتوكولي لا يتجاوز التوقيع أو إضفاء صفة “الشراكة”. وهكذا وجدت الدولة نفسها أمام واقع جديد تتحرك فيه المنظمات ككيانات تمتلك أدواتها وميزانياتها وفرقها الخاصة في مسار يكرس فكرة “دولة داخل الدولة”.
ومع هذا التحول الكبير بدأ نزيف الخبرات يظهر بوضوح، إذ اتجهت الكفاءات الحكومية إلى العمل مع المنظمات بحثاً عن رواتب أفضل، ما أدى إلى فراغ مؤلم داخل الوزارات والمكاتب الحكومية، وانهيار تدريجي للذاكرة المؤسسية التي كانت تحفظ التجارب والخطط والأنظمة. ومع مرور الوقت عجزت المؤسسات عن ممارسة مهامها الطبيعية، وانخفض مستوى الأداء إلى الحد الذي لم تعد فيه قادرة على إدارة ملفاتها الأساسية.
أما الاقتصاد الوطني فقد واجه هو الآخر صدمة قوية مع ظهور اقتصاد موازٍ تتحرك فيه المنظمات بإمكانات تفوق قدرة الدولة. ومع كل توسع لهذا الاقتصاد فقدت الحكومة قدرتها على المنافسة أو إعادة ترتيب القطاع العام، وصار جزء كبير من دورة العمل يسير خارج سلطتها، ما رسخ أكثر فأكثر وجود “دولة داخل الدولة”.
ورغم الشعارات الواسعة التي ترفعها تلك المنظمات، فإن غالبية مشاريعها تبقى قصيرة الأجل، تركز على مساعدات آنية أو تدريبات لا تُحدث أي نقلة حقيقية. كثير من هذه التدخلات ينتهي بانتهاء التمويل، دون أن يترك أثراً تنموياً مستداماً، فيما تستمر حاجة المجتمع إليها كما لو أنها أصبحت جزءاً من بنية الحياة اليومية، لا أداة مؤقتة لمعالجة ظرف إنساني.
وفي المقابل يجب الإشارة إلى أن هناك عدداً محدوداً جداً من المنظمات ذات الأداء المهني التي حظيت بقبول المجتمع وساهمت في أعمال واضحة، لكن هذه المنظمات تبقى استثناء نادراً وسط مشهد متخم بالتداخل والضبابية. فالأصل ليس في المنظمات ذات الأداء الجيد، بل في غياب الإطار الذي يحمي سيادة الدولة ويضمن أن يكون وجود هذه الكيانات مساعداً لا بديلاً.
وتجارب الدول التي سبقت اليمن في هذا المسار تقدم دروساً واضحة: فمصر شددت قوانينها بعد أن لاحظت توسعاً غير منضبط، وإثيوبيا وضعت قيوداً صارمة على التمويل الخارجي في الملفات الحساسة، وروسيا أوقفت العديد من المنظمات التي تجاوزت دورها، والهند سحبت تراخيص مئات المنظمات عندما لاحظت تأثيرها على السيادة والاقتصاد. وقد فعلت هذه الدول ذلك بدافع الحفاظ على كيان الدولة ومنع تكوين “دولة داخل الدولة”، لأن المؤسسات الرسمية هي القاعدة الأولى للتنمية، وليس أي جهة أخرى.
كما أن جميع الدول المتقدمة لا تعتمد على المنظمات إلا في حالات الضرورة القصوى، وتضع لها قواعد صارمة بحيث لا تمس سيادة مؤسساتها ولا تحل محلها. فالتنمية في تلك الدول مسؤولية حكومية أولاً، والمنظمات مجرد داعم مؤقت عند الحاجة، وليس قوة متوغلة تمسك بمفاصل الدولة أو تتحكم بمواردها.
واليمن اليوم تقف أمام مفترق طرق، إذ أصبح الواقع الحالي عبئاً على الدولة والمجتمع معاً، واستمرار هذا الوضع يعني مزيداً من تآكل دور المؤسسات الرسمية، ومزيداً من ترسيخ وجود “دولة داخل الدولة”، ومزيداً من فقدان الثقة بدور الدولة نفسها.
ومن هنا تأتي الرسالة المخلصة إلى دولة رئيس مجلس الوزراء الأستاذ سالم صالح بن بريك: إن ضبط واقع عمل المنظمات لم يعد شأناً ثانوياً أو ملفاً يمكن تأجيله، بل ضرورة وطنية يجب أن تكون ضمن أولويات الإصلاح الحقيقي. فإعادة الاعتبار للدولة تبدأ بإعادة سيادتها على التنمية، ووضع حد لتغلغل هذه المنظمات في مفاصل المؤسسات الحكومية، وضمان أن تعمل وفق رؤية وطنية لا تتعارض مع مهام الدولة ولا تنتزع منها صلاحياتها. إن اليمن بحاجة إلى قرار شجاع يعيد للدولة مكانتها، ويمنع تكريس أي “دولة داخل الدولة”، ويعيد التنمية إلى مسارها الطبيعي بوصفها مسؤولية وطنية قبل أن تكون مشروعاً خارجياً.






