اعلانك معنا تحقيق اهدافك التجارية وزيادة مبيعاتك
ابحث في الموقع
تاربة اليوم - الموقع الإخباري اليمني

حسين أبو بكر المحضار: شاعر حضرمي في مفترق التراث والنهضة الفنية

حسين أبو بكر المحضار: شاعر حضرمي في مفترق التراث والنهضة الفنية

تاربة_اليوم /كتابات واراء

بقلم الدكتور عبدالناصر سعيد محمد البطاطي
أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية

21 نوفمبر 2025م

يحتل الشاعر الحضرمي الكبير حسين أبو بكر المحضار (1930م – 2000م) مكانة مركزية في تاريخ الشعر الغنائي الحضرمي خصوصًا والعربي على وجه العموم، ويمثل إحدى القمم الفنية التي أعادت تشكيل ملامح الأغنية الحضرمية في القرن العشرين، سواء من خلال النص أو من خلال اللحن. لقد قدم المحضار مشروعًا فنيًّا متكاملًا اتسم بقدر كبير من الوعي الجمالي، وحقق عبره انتقالة نوعية جعلت من الشعر الشعبي الحضرمي نصًّا قابلًا للانتشار في معظم أرجاء الوطن العربي وخارجه دون أن يفقد خصائصه الأصيلة. سنعمل في هذا المقال على استعراض سيرته وأعماله ومنهجه الشعري، وسنقدم قراءة تحليلية موسعة تستند إلى مصادر موثقة وإلى مقاربات نقدية حديثة.
ولد المحضار في مدينة الشحر، وهي من أهم حواضر حضرموت الثقافية والتجارية، وفي بيئة تجمع بين الروح الدينية الصوفية، وانفتاح الميناء التاريخي على العالم الخارجي. هذا التشكل الثقافي المبكر أسهم في تكوين شخصية شاعر يمتلك حساسية عالية تجاه الإيقاع، واللغة، وحركة المجتمع، والعلاقات الإنسانية. وقد نشأ في وسط يحترم العلم والأدب، وشهد مبكرًا مجالس (الدان) الحضرمي، وهو الفن الذي أثر فيه عميقًا وأصبح أحد أهم ركائز مشروعه الشعري.
لم يكن المحضار شاعرًا بالموهبة وحدها، بل كان شاعرًا بالتجربة؛ فقد عاش تحولات حضرموت الاجتماعية في القرن العشرين، وشهد انتقالها من مجتمع تقليدي يتكئ على التجارة البحرية إلى مجتمع يبحث عن ذاته في ظل التغيرات السياسية والاقتصادية. هذه التحولات انعكست في شعره بصورة غير مباشرة، حيث يظهر الوعي الاجتماعي بلغة فنية رقيقة وعبارات محكمة.
اعتمد المحضار في كتابته الشعرية على لغة مكثفة، محكمة الصياغة، بسيطة في ظاهرها لكنها عميقة في بنائها الداخلي. تتجسد في نصوصه ثلاثة محاور أساسية هي:

1. الغزل الحضري الرفيع: يتعامل المحضار مع الحب بوصفه تجربة إنسانية ناضجة لا تقوم على الاستهلاك العاطفي، بل على رؤية جمالية تتخذ من التفاصيل اليومية مرآة للوجدان. كثير من نصوصه تقوم على مبدأ (الترميز البسيط)، الذي يجعل المشهد نابضًا بالحياة وقادرًا على التواصل مع شرائح واسعة من الجمهور.

2. البعد الصوفي الهادئ: تتجلى الروح الصوفية في شعره عبر صور النور والظل، والرحلة والبحث، والزهد والصفاء، دون أن يتحول النص إلى خطاب ديني مباشر. إنما يحضر التصوف بوصفه حالة وجدانية تعمق التجربة الشعرية وتمنحها طابعًا تأمليًا شفافًا.

3. الوعي الاجتماعي: يعكس المحضار في عدد من أعماله تحولات المجتمع الحضرمي، لكنه يفعل ذلك عبر لغة شاعر لا عبر لغة سياسي. ينتقد، يومئ، يلوح، لكنه لا يصرح. وهذا ما جعل شعره يحتفظ بمكانته الأخلاقية والجمالية دون انزلاق إلى التوظيف الآني أو الخطاب المباشر.


تمتاز قصيدته بعدة خصائص تجعلها نموذجًا متفردًا في الشعر الشعبي العربي:

1. التماسك البنيوي: يظهر النص وكأنه مُصاغ في سبيكة واحدة، بلا حشو ولا تكرار.

2. الإيقاع الداخلي: الإيقاع في شعره ليس موسيقى فحسب، بل وظيفة جمالية تبني المعنى وتؤسس لحالة من الانسجام الداخلي بين الفكرة والوزن.

3. الصورة الحياتية: يستخدم مفردات البيئة الحضرمية – السوق، البحر، السفينة، الغربة، التجارة – ليجعل النص وثيق الصلة بالواقع دون فقدان الحالة الشعرية.

4. الدقة اللغوية: اللغة عند المحضار منضبطة، لا تقع في التكلف، ولا تسترسل في الترهل، بل تميل إلى الإيجاز المعبر.


هذه السمات تجعل شعره قابلًا للدراسة من زوايا الأدب الشعبي، واللسانيات، وعلم الموسيقى، وحتى الأنثروبولوجيا الثقافية.
أهم ما ميز المحضار أنه لم يكن شاعرًا فقط، بل كان ملحنًا بارعًا. هذه الازدواجية مكنته من خلق علاقة عضوية بين الكلمة واللحن، علاقة قَلَّ أن نجدها بهذه القوة في تجارب الشعراء الغنائيين في العالم العربي، حيث نجد أن المحضار أبدع وتفرد، وقدم للعالم الآتي:

1. انسجام النص واللحن: كان يكتب وهو يسمع اللحن في داخله، فيخرج النص وكأنه مصنوع لحنًا قبل أن يكون شعرًا. وهذا ما يفسر قدرة ألحانه على الانتشار الواسع.

2. المدرسة المحضارية الحديثة: أسس مع الفنان الكبير أبو بكر سالم بلفقيه تجربة موسيقية شكلت جسرًا بين حضرموت والجزيرة والخليج، وجعلت الأغنية الحضرمية جزءًا من المشهد العربي العام. حيث لم تعد الأغنية الحضرمية بعد المحضار فنًا محليًا؛ بل أصبحت ظاهرة عربية تتناقلها الأجيال.

3. التجديد في إطار الأصالة: لم يقطع المحضار صلته بالتراث، بل أعاد تشكيله. حافظ على روح الدان، لكنه أدخله في إطار حديث، مطور المقام والإيقاع، ومجدد بنية الأغنية دون المساس بجذورها.


لقد نحت المحضار لنفسه مكان في الذاكرة الثقافية الحضرمية والعربية، حيث نجد أن أثر المحضار لا يقتصر على عالم الفن، بل يمتد إلى الحقول الثقافية والاجتماعية. فقد أصبح أحد رموز حضرموت، وذاكرة جمالية ناطقة بتاريخها ووجدانها.
أُقيمت له احتفاليات، ونُشرت عنه دراسات ومقالات، وحُفظت أغانيه في أرشيفات رسمية وشعبية، وتحول اسمه إلى علامة من علامات الهوية الحضرمية.
ولا شك أن تراثه يحتاج اليوم إلى مشروع جمع وتوثيق وتحقيق يشمل دواوينه، مخطوطاته، تسجيلاته، وألحانه؛ فهي مادة معرفية مهمة للدراسات المستقبلية في الأدب الشعبي والموسيقى العربية.
ويُمكن تلخيص التجربة المحضارية في النقاط الآتية:

1. تجربة شعرية ذات عمق إنساني تتجاوز حدود الجغرافيا المحلية.

2. مشروع فني متكامل يجمع بين الشعر واللحن والأداء.

3. لغة متماسكة ذات جمالية خاصة ومرجعية حضرمية أصيلة.

4. إسهام ملحوظ في تحديث الأغنية العربية دون فقدان الهوية المحلية.

5. قابلية عالية للدراسة الأكاديمية في جوانب تتعلق بالشعر الشعبي، الموسيقى، السيمياء، والهوية الثقافية.


إن إرث المحضار يظل من أهم المعادن الثقافية في حضرموت واليمن والعالم العربي، وهو نموذج يمكن للباحثين والدارسين أن يبنوا عليه تحليلات موسعة تضيء جوانب الشعر والموسيقى العربية الحديثة.
يبقى الشاعر حسين أبو بكر المحضار صوتًا استثنائيًّا في الوجدان العربي، جمع بين عبقرية الكلمة ورهافة اللحن، وترك للأجيال نصوصًا تتسم بالصدق الفني والعمق الإنساني. إن قراءة تجربته ليست مجرد عودة إلى شاعر مبدع، بل هي قراءة في تاريخ حضرموت العريق، وشخصيتها الثقافية الصلبة والمميزة، وتفاعلها مع العالم العربي في مرحلة من أهم مراحل التحول الفني والاجتماعي.
رحم الله أيقونة حضرموت الخالدة، الشاعر الكبير والملحن القدير حسين أبو بكر المحضار.
مع خالص الود والتقدير

إغلاق