الصراع الدولي بين روسيا والولايات المتحدة: ازدواجية المعايير واستراتيجيات المجال الحيوي
تاربة_اليوم /كتابات واراء
بقلم: الدكتور عبدالناصر سعيد محمد البطاطي
أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية
الأثنين، 17 نوفمبر 2025م
يعيش العالم اليوم في قلب تحول استراتيجي عميق يعيد رسم خرائط القوة والنفوذ في النظام الدولي، ولم تعد الحرب الباردة مجرد فصل من التاريخ، بل أصبحت قالبًا متجددًا تتبدل فيه الأدوات ويتغير فيه اللاعبون، فيما تبقى الغاية الجوهرية واحدة: السيطرة على المجال الحيوي وضمان الأمن القومي عبر التوسع أو الهيمنة أو التحكم غير المباشر. في هذا السياق تتجلى المفارقة الكبرى بين روسيا الاتحادية التي تخوض عملية عسكرية في أوكرانيا تحت شعار حماية أمنها القومي، وبين الولايات المتحدة الأمريكية التي تمارس ضغوطًا وتدخلات متكررة في أمريكا اللاتينية ولا سيما في فنزويلا وكولومبيا تحت ذريعة مكافحة تجارة المخدرات، في حين أن الهدف الحقيقي هو فرض السيطرة الجيوسياسية والتحكم بالموارد الحيوية في تلك المنطقة.
منذ انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991م، ظلت روسيا الاتحادية تعتبر الفضاء المحيط بها جزءًا لا يتجزأ من مناطق أمنها الحيوي، وخصوصًا أوكرانيا التي تمثل حلقة الوصل بين روسيا وأوروبا. وقد رأت موسكو في تمدد حلف شمال الأطلسي شرقًا تهديدًا وجوديًا لا يمكن التساهل معه. وعندما حاولت أوكرانيا الانضمام إلى الناتو والاتحاد الأوروبي، اعتبرت روسيا ذلك تجاوزًا للخطوط الحمراء وتعديًا مباشرًا على مجالها الأمني. لذلك لم تكن العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا في فبراير 2022م مجرد غزو كما يصوره الغرب، بل تجسيدًا لعقيدة أمنية ترى أن من لا يسيطر على جواره يُعَرِّض نفسه لخطر التفكك والاختراق. ومن هذا المنظور فإن ما قامت به موسكو هو ترجمة عملية لمبدأ الوقاية الاستراتيجية في مواجهة تمدد الغرب العسكري والاستخباراتي إلى حدودها المباشرة.
وفي المقابل تنتهج الولايات المتحدة سياسة مشابهة من حيث الجوهر وإن اختلفت في المظهر، فقد ظلت أمريكا اللاتينية – وخاصة فنزويلا وكولومبيا – تعد بمثابة الفناء الخلفي للولايات المتحدة الأمريكية منذ مبدأ مونرو عام 1823م، الذي نص على أن أي تدخل أوروبي في شؤون القارة سيُعد عدوانًا على الأمن القومي الأمريكي. واليوم تتجدد هذه السياسة في ثوب جديد تحت ذريعة مكافحة تجارة المخدرات التي تُتهم بها كولومبيا وفنزويلا عبر ما يُعرف بالكارتيلات. وقد صَرَّح الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مرارًا بأن هذه الكارتيلات تشكل تهديدًا مباشرًا للأمن القومي الأمريكي، ملوحًا بعمليات خاصة أو إجراءات اقتصادية صارمة في المنطقة. غير أن المتابعين يدركون أن هذه الذريعة تخفي وراءها أهدافًا أكثر عمقًا تتمثل في السيطرة على موارد الطاقة والمعادن النادرة والنفط والغاز الفنزويلي، فضلًا عن إحكام القبضة الأمريكية على المجال الجيوسياسي الجنوبي تحسبًا لأي نفوذ روسي أو صيني متنامٍ هناك.
والمفارقة هنا أن ما يُعد (حقًا مشروعًا) للولايات المتحدة الأمريكية في حماية مجالها الجنوبي، يُعتبر في الوقت ذاته (عدوانًا سافرًا) عندما تمارسه روسيا الاتحادية في محيطها القريب. فحين تسعى موسكو إلى ضمان أمنها الإقليمي عبر عملية عسكرية محدودة في جوارها الجغرافي، تُتهم بانتهاك السيادة وخرق القانون الدولي وتُفرض عليها العقوبات، بينما تمارس واشنطن تدخلاتها الاقتصادية والعسكرية والاستخباراتية في قارات بعيدة تحت ذرائع متعددة من نشر الديمقراطية إلى مكافحة الإرهاب والمخدرات دون أن يتهمها أحد بالعدوان أو الاحتلال. وهذه الازدواجية ليست مجرد تناقض في المواقف، بل هي انعكاس لبنية النظام الدولي ذاته، الذي ما يزال تحكمه القوة لا العدالة، والمصالح لا المبادئ.
وفي ظل هذا المشهد تتشكل ملامح نظام دولي جديد تتراجع فيه الهيمنة الأمريكية تدريجيًا لصالح تعددية قطبية تقودها روسيا والصين وتلتحق بها قوى صاعدة مثل الهند وتركيا وإيران والبرازيل وجنوب أفريقيا، وإلى حدٍ ما المملكة العربية السعودية بصورة ناعمة متوازنة. هذه القوى لا تسعى بالضرورة إلى إسقاط الولايات المتحدة الأمريكية، لكنها تطالب بإعادة التوازن العالمي بحيث لا يبقى القرار الدولي رهينًا لقطب واحد يحتكر تعريف الشرعية وفق مصالحه. ومن هذا المنطلق فإن الصراع في أوكرانيا ليس مجرد نزاع حدودي، بل اختبار عملي لترتيب القوى في النظام العالمي الجديد، كما أن التوتر في أمريكا اللاتينية هو صراع على المستقبل الجيوسياسي للعالم، حيث لا مكان للأحادية القطبية بعد الآن.
إن السياسة الواقعية تفرض نفسها كإطار لفهم هذا الصراع، فالدول لا تتحرك بدوافع أخلاقية بل وفق موازين القوة والمصلحة. ومع ذلك، فإن الأخلاق السياسية تظل حاضرة كقناع للشرعية حين تحتاج القوى الكبرى إلى تبرير أفعالها. فالولايات المتحدة الأمريكية ترفع شعارات القيم الإنسانية لتبرير تدخلاتها، بينما تصف روسيا الاتحادية سلوكها بأنه دفاع مشروع عن أمنها القومي. وإذا كانت واشنطن ترى أنه من حقها التدخل في فنزويلا وكولومبيا بحجة حماية أمنها القومي، أفلا يحق لروسيا أن تفعل الشيء ذاته في جوارها؟ ما هو حلال للغرب لا يمكن أن يكون حرامًا على روسيا، لأن الأمن القومي لا يُقاس بمعايير مزدوجة، بل بمبدأ السيادة وتوازن الردع الواقعي.
في نهاية المطاف يظل الصراع بين روسيا الاتحادية والولايات المتحدة الأمريكية أكثر من مجرد تنافس على النفوذ، فهو صراع على تعريف النظام العالمي نفسه: هل سيبقى العالم أحادي القطبية تحت سيطرة واشنطن أم سينتقل إلى تعددية متوازنة تضمن لكل دولة حقها في الأمن والقرار؟ إن الواقع الدولي يثبت أن زمن الهيمنة الأمريكية المطلقة قد بدأ بالأفول، وأن القوى الصاعدة تفرض واقعًا جديدًا يعيد للعالم شيئًا من التوازن المفقود. والدرس الأعمق هنا أن من يحتكر الأمن لذاته ويحرم الآخرين منه، إنما يزرع بذور الفوضى في النظام الدولي. فلا يجوز أن يُمنح لأمريكا ما يُحرم على روسيا، ولا أن يُسمى التدخل الأمريكي دفاعًا مشروعًا بينما يوصف الدفاع الروسي بالعدوان. العالم اليوم يقف على أعتاب مرحلة جديدة، سيكون عنوانها الحقيقي: العدالة في توزيع القوة أو الفوضى في غيابها.






