اعلانك معنا تحقيق اهدافك التجارية وزيادة مبيعاتك
ابحث في الموقع
تاربة اليوم - الموقع الإخباري اليمني

سلامة اللغة ومسؤولية المشرف العلمي: الكلمة بوابة المصداقية في البحث الأكاديمي

سلامة اللغة ومسؤولية المشرف العلمي: الكلمة بوابة المصداقية في البحث الأكاديمي

تاربة_اليوم /كتابات واراء

بقلم: الدكتور عبدالناصر سعيد محمد البطاطي
باحث أكاديمي

10 نوفمبر 2025م

تُعَدُّ سلامة اللغة في رسائل الماجستير وأطروحات الدكتوراه في الجامعات والمراكز البحثية إحدى ركائز الجودة الأكاديمية وأهم مؤشرات الرصانة العلمية، إذ تعكس دقة الباحث، وصرامة وتمكن المشرف العلمي، وجدية المؤسسة المشرفة، ومستوى الالتزام بالمعايير العلمية الرفيعة في البحث والتحرير. إن سلامة اللغة ليست ترفًا لغويًا أو تجميلًا شكليًا، بل تمثل بُعدًا منهجيًا وأخلاقيًا يؤسس لمصداقية البحث العلمي ودقته. فالكلمة هي الوعاء الذي يحمل الفكرة، ومتى اختل الوعاء اضطرب المعنى وضاعت الفكرة. ومن هنا، فإن التدقيق اللغوي الدقيق ليس مرحلة ثانوية في إعداد الرسائل والأطروحات العلمية، بل هو أساس أصيل في بناء المعرفة الموثوقة.
العنوان على وجه الخصوص يُعَدُّ البوابة الفكرية للبحث، فهو المرآة الأولى التي تعكس من خلالها هوية الدراسة ومنهجها ومشكلتها وأهدافها. ومن ثم فإن أي خطأٍ لغوي أو نحوي أو دلالي في صياغة العنوان يُعَدُّ خللًا منهجيًا خطيرًا يمس صميم العمل الأكاديمي. فالعنوان ليس مجرد صياغة لغوية؛ بل هو إطارٌ نظريٌّ ومفهوميٌّ تنطلق منه الأسئلة الرئيسة والفرعية، وتُبنى عليه الفرضيات وتُحدَّد المناهج وتُستخلص النتائج.
إنَّ وقوعَ خطأٍ لغويٍّ في عنوان رسالةٍ جامعية لا يمكن النظر إليه كزلةٍ عابرة، بل هو مؤشر على غياب المراجعة الدقيقة من الباحث والمشرف العلمي على حدٍّ سواء. ومتى فقدت الرسالةُ دقتها في أول عتباتها –أي العنوان– فإنَّ الثقة في نتائجها تتزعزع، لأنَّ اللغة في البحث العلمي ليست وسيلة تعبير فحسب، بل هي أداة ضبطٍ للمعنى ومقياسٌ للمنهج.
وقد يحدث أن تُرتكب أخطاءٌ في أدوات البحث مثل الاستبانة، كأن يُكرَّر خيار (موافق بشدة) بدل (غير موافق بشدة)، وهذا وحده كفيلٌ بإفساد التحليل الإحصائي وتشويه النتائج. غير أنَّ الخطأ في العنوان أخطرُ بكثير، لأنه يوجه مسار البحث بأكمله، ويغير زاوية النظر إلى المشكلة البحثية من أساسها.
إنَّ الإشراف العلمي الرصين هو حجر الزاوية في حماية جودة البحث. ومن غير المقبول –علميًا وأخلاقيًا– أن يمرَّ خطأٌ لغويٌّ أو منهجيٌّ دون أن يُكتشف أو يُصحَّح. فالمشرف العلمي هو الحارس الأول على صدقية المعرفة ونزاهة المنهج، ومسؤوليته لا تقتصر على المتابعة الشكلية أو الإشراف الإداري، بل تشمل المراجعة الدقيقة لِكُلِّ مُكَوَّنٍ مِن مُكَوَّنَاتِ البحث: من العنوان والمشكلة، إلى الفرضيات والمنهج والتحليل والمراجع.
وأي تساهل في هذه المسؤولية لا يُعَدُّ سهوًا عابرًا، بل إخلالًا بالواجب الأكاديمي، وجناية على البحث العلمي نفسه، لأنَّ المشرف الذي يتغاضى عن الأخطاء يُكَرِّس ثقافة التساهل والتقليد، بدلًا من غرس قيم الصرامة والدقَّة والأمانة العلمية.
فالرسالة أو الأطروحة ليست مجرَّد إنجازٍ شخصي للباحث، بل هي شهادةٌ على مستوى الإشراف العلمي في المؤسسة الجامعية بأسرها. ولذلك، فإنَّ المشرف الحقيقي هو من يوجه ويصحح ويدقق، ويتعامل مع كل تفصيل في الرسالة أو الأطروحة على أنه مسؤولية أخلاقية وعلمية لا تقبل التهاون.
إنَّ الإشراف العلمي الحق يبدأ من سلامة الكلمة؛ فالكلمة هي أصل الحقيقة الأكاديمية ومرآة الفكر الرصين. ولا يمكن الحديث عن بحثٍ علميٍّ رصين ما لم تكن لغته دقيقةً وواضحةً ومعبرة عن فكرٍ ناضجٍ ومنهجٍ منضبط. وعلى المشرف أن يكون متجردًا في حكمه، صارمًا في تدقيقه، حازمًا في تصويبه، لأنَّ مسؤوليته لا تتوقف عند مساعدة الباحث على نيل الدرجة، بل تمتد إلى حماية قيمة البحث ومكانة المؤسسة العلمية التي يُنسب إليها.
وفي النهاية، يبقى التدقيق اللغوي والإشراف العلمي وجهين لعملة واحدة في منظومة البحث الرصين. فالمشرف الذي يدقق في الكلمة، ويزن الجملة بميزان المنهج، هو الذي يصنع باحثًا قادرًا على التفكير العلمي والكتابة الأكاديمية الصحيحة. وبهذا وحده تُبنى الجامعات الراسخة، وتُحفظ للبحث العلمي هيبته ومكانته.
مع خالص التقدير والاحترام.

إغلاق