عندما تتصحر المكلا
كتب /عيظه علي الجمحي
الاثنين 27 اكتوبر 2025
في مطلع تسعينيات القرن الماضي، وبعد تحقيق الوحدة اليمنية، شهدت كثير من المدن والمحافظات الجنوبية تحولات سلوكية مقلقة، تمثلت في بروز أنماط وتصرفات دخيلة على النسيج الاجتماعي المحافظ الذي عُرفت به هذه المناطق عبر تاريخها الطويل.
ولأن حضرموت كانت على الدوام مثالًا للالتزام الديني والخلق الرفيع، فقد رفضت تلك المظاهر الشاذة التي أخذت تلطّخ المشهد العام وتخرق تقاليد السلم الاجتماعي الذي تميّزت به.
غير أن مدينة الشحر آنذاك كانت من أوائل المدن التي طالتها تلك الموجة الغريبة، فشهدت جرائم قتل وحوادث اعتداء لم يألفها أهلها، حتى إن بعض الحوادث طالت بيوت الله، وهو ما أثار استياءً واسعًا في الأوساط المجتمعية والثقافية.
ولعل الشاعر الكبير حسين أبوبكر المحضار التقط هذا التحوّل بذكاء فني وبصيرة اجتماعية، فعبّر عنه في إحدى قصائده الناقدة التي غنّيت وانتشرت بين الناس، مستنكرًا التبدّل الذي طرأ على مدينته الشحر حين قال> يا شحرنا مالش تصحرتي وقد كنتي مدينة؟
عبارة بسيطة، لكنها مشحونة بالمعنى العميق. فـ”تصحر المدينة” في رؤية المحضار لا يعني الجفاف المادي فحسب، بل هو تصحر القيم والأخلاق حين تجفّ ينابيع التسامح والسكينة، وتذبل خُضرة المروءة والأمان.
واليوم، وبعد مرور أكثر من ثلاثة عقود على تلك التحولات، يبدو أننا نعيش مشهدًا مشابهًا، ولكن في المكلا هذه المرة؛ المدينة التي بدأت تشهد في الآونة الأخيرة تصاعدًا في حوادث الإجرام والتقطع، ما يثير قلق سكانها ويعيد إلى الأذهان سؤال المحضار الأول، ولكن بصيغة جديدة:
هل تتصحر المكلا؟
وهل ننتظر حتى يشتد الجفاف الأخلاقي والاجتماعي قبل أن تتدخل الجهات المختصة والمجتمع معًا لإعادة التوازن وضبط البوصلة نحو حياة يسودها الأمن والسكينة؟
إن الأمن لا يتحقق بالجهود الأمنية وحدها، بل يحتاج إلى وعي مجتمعي وإصلاح ثقافي وسلوكي يعيد للمدينة روحها، وللقيم جذورها، حتى لا نصحو ذات يومٍ على مدنٍ جميلة الشكل… ولكنها قاحلة الجوهر وكفى.






