تقريظي لكتاب الأستاذ سالم محمد بجود باراس الموسوم : (دوعن وأرياف المكلا معالمها وموروثها الثقافي ) وهو من إصدارات مركز حضرموت للدراسات التاريخية والتوثيق والنشر (قريبا في الاسواق)
تاربة_اليوم / خاص / عبدالله سعيد بن جسار الجعيدي / 24 يونيو 2025
سالم بجود باراس: الرحالة الذي يكتب عن حضرموت بقدميه وقلبه، بين مفهومي “البدو الرُحَّل” و”الرحَّالة البدو” خيطٌ دقيق يربط بينهما، وشعرةٌ تفصل بينهما. فالأوّلون يجوبون الأرض بحثًا عن الكلأ والماء، بينما الآخرون يتلمّسون المعرفة، يطاردون المعلومة، ويمشّطون الجغرافيا بأقدامهم ليحفروا في تضاريسها سطورًا من التاريخ. وفي عصرنا، لا يجد هذا المعنى تجسيدًا أوفى من الأستاذ سالم محمد بجود باراس، الذي استحق لقب “فارس الهضبة”. فهو لم يكن مجرّد عابر سبيل في أرضه، بل نبتة أصيلةً تقاوم الجفاف، وإذا سنحت الفرصة اهتزّت وربت.
في كتابه هذا، يأخذنا الرحالة باراس إلى أعلى نقطة في حضرموت، إلى كار (كور) سيبان، حيث تصير الأرض نافذةً على الأفق، وحيث تُبصر العيون أسرارَ البداوة وأعراف القبيلة، التي يصفها بالدستور التاريخي الضابط لحياة الرجال، والحائل دون الفوضى في أرضٍ مفتوحةٍ يصعب السيطرة عليها. في تلك البقاع، لا مكان للخارجين عن العرف، فالجميع محكوم بمنظومةٍ تحفظ التوازن بين الحرية والانضباط، بين الفوضى والنظام.
ومن قمم حضرموت إلى وديانها، لا يتوقف باراس عن النبش في تضاريس التاريخ والجغرافيا، فيعرفنا على نَسَب قبيلة سيبان العريقة، ثم يأخذنا في رحلةٍ عبر مغاراتٍ وقرىً وبلداتٍ متناثرةٍ على الهضاب، وصولًا إلى وديان دوعن وريفها البهيّ. في جهدٍ بحثي نادر، لا يكتفي بتوثيق المكان، بل يصوّب أخطاء الرحّالة الأجانب وغيرهم الذين سبقوه، مصحّحًا ما التبس عليهم من الأسماء والوقائع، مستعيدًا حضرموت بصوتها المحلي، بنطقها الصحيح، بحكاياتها كما يرويها أهلها، لا كما نُقِلت مشوّهةً على ألسن العابرين.
ومما يجعل لهذا الكتاب قيمة علمية ليس فقط المعلومات المحلية التي ذكرها، بل روح البحث والمغامرة التي تسكن صاحبها. فباراس ليس رحالةً مكتبيًا، بل يسير حيث يكتب، ويكتب حيث يسير. بإمكاناتٍ يسيرة، لكنه بعزيمةٍ لا تعرف الحدود، يخوض المجهول، فتفتح له الطبيعة بعض أسرارها، وتُبقي عليه بعضها الآخر، تغازله من طرفٍ خفي لتدعوه إلى العودة، لا كمسافرٍ أنهكته الطريق، بل كعاشقٍ لا يشبع من محبوبته، ككاتبٍ يدرك أن الرواية لم تنتهِ بعد، وأن مجد الأجداد يحكى على دفعاتٍ للأجيال القادمة.
هذا الكتاب، إذن، ليس مجرد سجلٍّ لرحلة، بل هو وثيقةٌ نابضةٌ بحياة الأرض وأهلها، بانسيابها وخشونتها، بقصصها وقوانينها. وهو شهادةٌ على أن فارس الهضبة قد خطّ اسمه بين الرحالة، لكنه ليس غريبًا عن حضرموت، بل هو ابنُها الذي كلما ارتحل، ازداد تجذّرًا فيها، وتدفقت كلماته تنبض بالحكايات المستمرة.





